في السنة الأولى من كلية الطب، اختبرتُ نوعين من الأساتذة في امتحانات الشفوي.
الأول كان أستاذاً كبيراً في مادة الكيمياء الحيوية، جلستُ أمامه؛ فسألني: "تحب تتسأل في إيه؟".
كنت قد سمعت كثيراً من الزملاء الأكبر سنّاً عن هذا السؤال الثعباني المتكرر في مثل هذا الموقف، والذي ما إنْ تتسرع وتنطق باسم chapter بعينه أو درسٍ محدد؛ فإن الاختبار يكون قد تحدد: ستُسأل في كل موضعٍ إلا الموضع الذي اخترتَه!
لم أقعْ في الفخّ، وقلتُ إنني ذاكرت كل الموضوعات بالقدرِ نفسه؛ فاللي تشوفه حضرتك. أصرّ الأستاذ وألحّ؛ فقلت في نفسي لن يضير الشاة سلخها بعد ذبحها، كده ميت وكده ميت؛ فاخترت درس "الإنزيمات – Enzymes".
هزّ الأستاذ رأسه في هدوء وقال: كويس، اتفضل كلمني عن الإنزيمات.
نظرت له لمدة ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ: حقاً! بتلك البساطة!
لكن ملامحه كانت مُشجّعة وجادّة في الوقت نفسه. فأجبت وترك لي الحبل على غارِبه، تحدثتُ في الموضوع جملةً وتفصيلاً، ولم يوقفني، إلّا لتوضيحٍ بسيطٍ أو سؤال شخصي ليخفف به حدّة التوتر.
في آخر الامتحان، قال لي: عندي سؤال شخصي ولك حرية الإجابة؛ هذه اللحية (يقصد لحيتي) تدين أم إهمال أم زينة؟!
ولأنني (بتاع كلام)، فأجبتُ إجابة نموذجية، رغم أنها كانت شخصية جداً وصادقة، فقلت: إن كثيرين يرون اللحية من الفرائض وغيرهم يرونها من السُّنة؛ لكنني لا أربيها لهذا الغرض أو ذاك، ولست أحب أن أكون منافقاً أو مخادعاً، بالطبع هي زينة، سبحان من زين وجوه الرجالِ باللحى، ثم إننا في أيام امتحانات وضغط؛ فلم يُسعفني وقتي لأهذّبها.
صافحني الأستاذ، واستدعى مَن بعدي. سألته: حضرتك كده أنا جاوبت كويس ولا إيه؟! فردّ: اتفضل بقا يا دكتور، ده أنت الوحيد اللي سلّمت عليه!
الثاني كان أستاذاً في مادة التشريح/الأناتومي، جلستُ أمامه، فقام واقفاً وأبعد كرسيَّه، ثم استند بيديه على المكتب، ثم ألقى السؤال الأول وفي عينيه نظرةُ تحدٍّ لم أفهمها، وكأننا عدوّان منذ زمن!
توترتُ قليلاً، لكنني أجبتُ عن السؤال، التفّ حولي، ووقف خلفي، ثم مال عليّ بجذعه، واستمر الامتحان بتلك الهيئة حتى نهايته، وكأننا في معسكرات النازيّة أو في تحقيقات الأمن الوطني!
ألقى سؤاله الثاني بسرعةٍ وبصوتٍ منخفض: "قل لي كده الـinsertion بتاع العضلة كذا، فتهيأت للإجابة، ثم لكزني وقال: "بقولك كذا" يقصد عضلة أخرى".
(اعتمد على التشابه الصوتي بين coracobrachialis/brachioradialis واتضح أيضاً أنه فعل فعلته تلك مع زميلي من بعدي).
توترت ولم أجب بعدها على سؤال واحد من أسئلته. ثم انصرفت وأنا أشكر الله أن هذه اللحظات السمجة مرّت وانتهت. ولم أشغل بالي بالدرجة ولا سألت عنها.
الشعر الأبيض نفسه، السنُّ واحدة تقريباً، القيمة نفسها التي يمنحها لهما الأساتذة والعمال من حولهما، ولكن..
ما الذي خسره الأول حين كان لطيفاً وودوداً؟ لا شيء، بل إنني حتى اليوم أذكرهُ بالخير وأبتسم.
ما الذي جناه الثاني من غروره وتسلطه؟ لا شيء، إلا أنني ألعنه كلما سمعت اسمه، وألعن اليوم الذي عرفته فيه وأكره طلعتهُ لو تقابلنا صدفةً حتى!
البعض يزعجهم أن ينعم الآخرون بالهدوء، ويقلقهم أن يتمتعوا -ولو لقليلٍ من الوقت- بالراحة والطمأنينة، ويقضّ مضاجعهم أن يفلت طالبٌ مسكين من تحت قبضتهم، وينجو من الإذلال والسخرية والإهانة، وكأنما يستمدون ثقتهم ويتنعّمون في مقاعدهم، بزعزعة ثقة الآخرين بأنفسهم وإشعارهم بأنهم أقل منهم بدرجاتٍ في أيديهم لا وزنَ له ولا قيمة.
يُسمونهم عندنا (Malignant)، الخبيثون الضارون، الذين يلحقون الأذى بالآخرين لإرضاء نزوة شريرةٍ أو نقصٍ ما، ويتبرعون عن فسادِ خاطرٍ وانعدامِ مروءة بإحداث أزمة نفسيةٍ وأخلاقية في نفوس الذين لم يقدموا لهم أي شيء، بل ربما تكون تلك المرة الوحيدة التي تتشابك فيها خيوط حيواتهم ثم تنفكُّ إلى غير لقاء أبداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.