تعقد الخلاف بين المدنيين والعسكريين بعد قرارات قائد الجيش السوداني، الانقلابي عبد الفتاح البرهان، في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، التي حل بموجبها مجلسي السيادة والوزراء، ودعا إلى تكوين حكومة كفاءات من التكنوقراط، فيما تمسكت أحزاب قوى الحرية والتغيير الحاكمة بالوضع ما قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول، واستنفرت أنصارها لمقاومة هذا الواقع الجديد.
وإزاء ذلك انطلق عدد من المبادرات الداخلية والخارجية لنزع فتيل الأزمة بين المكونين المدني والعسكري، هذا بجانب اللقاءات التي تجريها الولايات المتحدة عبر مبعوثها للقرن الإفريقي، والتي دعت فيها للتمسك بالدولة المدنية والتحول الديمقراطي، وفي الإطار ذاته تقوم دول الترويكا بمجهودات من أجل تحقيق توافق بين المختلفين.
لكن حتى الآن لم تلُح في الأفق بوادر اتفاق، حيث ظل كل طرف متمسكاً بموقفه، وفي هذا الشأن حتى الآن لا يوجد مخرج للأزمة، كل طرف مصر على موقفه، لكن إذا أبدوا قدراً من المرونة يمكن أن تتغير المواقف وتفتح أبواب الحوار.
هناك حديث تناقلته بعض المواقع الإخبارية عن حدوث تطورات بعد لقاء الترويكا بالعسكريين، وإذا صدق يمكن أن ينعكس إيجاباً على المواقف، لكن حتى الآن وفقاً للمتابعات لا توجد مبادرات مقبولة أو حل مقبول، وكان محجوب محمد صالح، عضو مبادرة حل الأزمة، ذكر قبول مبادرتهم من قبل حمدوك، وتحفظ العسكريون على بعض النقاط، لكنه لم يردّ بصورة نهائية حتى الآن.
الأزمة أقدم من ذلك
المتتبع لتاريخ السودان يدرك أن تاريخ الأزمة لا يرجع إلى 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وإنما استمرار مشاكل بدأت منذ يوم سقوط نظام المخلوع البشير، في أبريل/نيسان 2019. السودان عبر تاريخه مر بعدد من مراحل الانتقال، ثلاث منها جاءت نتيجة لانتفاضات شعبية وأسقطت أنظمة ديكتاتورية، واثنتان منها جاءتا نتيجة لاتفاق خارجي، تمثّل في الاتفاقية المصرية البريطانية، الموقّعة في 12 مارس/آذار 1953، والثاني تمثل في اتفاقية 2005، التي منحت الجنوب حق تقرير المصير. يمكن أن تقول عزيزي القارئ ما علاقة ذلك بالأزمة الحالية؟
إذا نظرنا إلى الانتفاضات الثلاث التي أسقطت أنظمة ديكتاتورية، نكتشف أن أي انتفاضة منها لم تصل إلى مراميها، لأن الجيش في آخر لحظة تدخّل وعدل أو غيّر وبدل في المعادلة التي حلت محل النظام القديم. ففي عبود تدخل كبار الضباط غير الأعضاء في مجلس الثورة، وفرضوا شروطاً جديدة، من بينها عدم محاسبة الضباط الذين قاموا بالانقلاب، واستمرار عبود في منصب رأس الدولة، هذه التسوية قبلتها الأحزاب التقليدية ورفضها اليسار، لكنها لم تستمر.
لاحقاً بعد شهر وقعت ليلة المتاريس الشهيرة، بعض الوزراء استنفروا الجماهير لحماية الثورة، بعد أن وصلتهم معلومات عن تحركات انقلابية من الثورة المضادة، وخرجت كل الجماهير في هذا الاستنفار، وأعيد اعتقال قادة نظام نوفمبر/تشرين الثاني، وأرسلوا مقصورين للحبس في مدينة زالنجي، بمديرية دارفور آنذاك، ما اضطر الرئيس عبود الذي استمر كرئيس للاستقالة من منصبه بعد اعتقال زملائه، فتغيرت موازين القوى وأطلق سراح السجناء.
في الانتفاضة الثانية، تدخّل الجيش مباشرة دون مشاورة مع القوى السياسية، وفرض انقلاب سوار الذهب، في الانتفاضة الثالثة تدخل الجيش وأنهى نظام البشير، وبعد 24 ساعة انقلب على الانقلاب الأول، وأتت قيادة جديدة وأعلنت تجاوبها مع أهداف الثورة.
هذا يدل على أنه في كل هذه الحالات في اللحظات الأخيرة، يكون هناك مشروعان متنافسان، مشروع الذين قاموا بالانتفاضة ويريدون الوصول بها إلى نتائجها وفرض واقعهم، ومشروع الجيش الذي يقطع عليهم الطريق ويتولى السلطة ويُشركهم عبر الشراكة أو التسوية السياسية، وإذا كانت التسوية غير مجدية أو مريحة للطرفين تحدث المشاكل، وهذا ما حدث الآن.
العقدة في المنشار
هناك مشكلة في التسوية بالنسبة لهذه المرحلة الانتقالية الحالية، لاحظنا أن الوصول للتسوية في هذه الحكومة احتاج إلى أربعة أشهر، مع أن المفاوضات بين الطرفين في حالة عبود أخذت أياماً فقط، أما سوار الذهب فقد واجههم بالواقع الجديد، الانقلاب كامل الأركان، ومنح نفسه سلطات رأس الدولة، التي كان يتمتع بها جعفر نميري، لكن هذه الانتفاضة أخذت مدة طويلة، وخلافاً مستمراً وتسويات، لذلك أنا غير مندهش للشروخ التي حصلت في التسوية التي تم الوصول إليها.
أي خروج على ما تحقق من مكاسب يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، لأنه ترتَّب على قبول هذه الأطراف الداخلية والخارجية بمدنية الدولة، ومشروع التحول الديمقراطي، تسهيلات ومساعدات مالية ودبلوماسية وسياسية، أنهت عزلة السودان وغيّرت الواقع الاقتصادي، وهذه الآن أصبحت مهددة. هذا الواقع يصبح جزءاً من المعادلة ويمنح الخارج قوة ضغط غير مسبوقة، وهو ما يزيد تعقيد الأزمة.
هذا جعل الناس يفكرون في وساطة لنزع فتيل الأزمة بين المكونين المدني والعسكري، باستعادة الشراكة حتى لو اقتضى الأمر مراجعة الشروط الأساسية التي قامت عليها، بغرض تقوية ومعالجة المواقف الثنائية بين أطراف المعادلة، شريطة الاحتفاظ بمشروع التحول الديمقراطي ومدنية الدولة وسيادة حكم القانون ومعالجة أسباب الصراع الداخلي، الذي وصل مرحلة الحرب الأهلية في بعض أطراف السودان، أو ما يعني أن أية مبادرة لا بد أن تعتمد هذه الأسس، وتسعى لخلق واقع جديد يكسب فيه الجميع، وهذا ليس بالأمر السهل، ويبرر الصعوبات التي واجهت مبادرات الحل السلمي، حيث ظل كل يتمترس في مواقفه، ما يعني أن المبادرات تواجه عثرات.
هذه الظروف التي ذكرتها أدت إلى أن الوساطة لم تتحرك بالسرعة المطلوبة، وبات بعضهم أقرب إلى تجميد الموقف حتى يحدث تغيير في المواقف، يساعد في عملية استمرار البحث عن حلول.
أكبر التعقيدات التي تواجه المبادرات والعاملين فيها كوسطاء أن قرارات القائد العام للقوات المسلحة تلغي المكاسب الديمقراطية التي اكتسبتها القوى الاجتماعية مفجرة الثورة، (قحت) هي المجموعة التي قادت الحراك الثوري، وما اكتسبته في الوثيقة هو حق مشروع، وهذا يفسر أن مطالب (قحت) ستجد سنداً شعبياً بهذه القوة والمتانة.
الإشكالية التي يستعرضها قائد الجيش غير المقنعة لأي شخص أنه يريد توسيع ماعون المشاركة في قاعدة المساندة للتغيير الثوري. الذي حدث وببساطة يعني أن يتخلى عمن قادوا الحراك الثوري لصالح جماعات لم تكن جزءاً من الثورة أصلاً.
من الطبيعي أن يطالب الذين قاموا بالثورة بالعودة إلى ما قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول، حفاظاً على المكاسب التي منحتها لهم الوثيقة، بالتراضي مع الجيش، وهم يعتقدون أن هدف مشروع الجيش هو مصادرة مكاسبهم، التي أتت بتضحيات وشهداء، وهذا يزيد اتساع الفجوة بين الطرفين، وينعكس على الصعوبات التي تواجه الحل.
ماذا بعد؟
الباب لم يغلق، هناك جهات عديدة تعمل، المؤسسات الإقليمية ممثلة في الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، ومن ورائهما الدول الصديقة والشقيقة، ودول الاتحاد الأوربي داخلها دول الترويكا، وهناك العمل المنفرد للولايات المتحدة، وهناك القوى الداخلية والرأي العام السوداني وجزرة وعصا مسكوت عنها. وهذه تتمثل في استمرار التسهيلات التي منحت للسودان في المجال الاقتصادي، هذا مثل الجزرة والعصا، وتتمثل في التهديد بسحب الميزات، هذا عنصر ضغط جديد من شأنه أن يؤثر في المعادلة، الأمر الثاني أن هذا الصراع استطال وبدأ هناك شعور بأنه يمكن أن تحدث مشاكل إذا استمر أكثر من ذلك، وتدخلت فيه عناصر من خارج المعادلة السياسية التي تحدثنا عنها.
الخلاصة أنه لا يوجد جديد، لكن هناك محاولات للخروج من الأزمة عن طريق عدد من المبادرات، وإذا صح ما تردد في بعض القنوات والمواقع الإخبارية عن وجود انفراج في المواقف، هذا يعني أن أطراف الصراع بدأوا يعيدون النظر في مواقفهم، ويمكن أن يجدوا حلولاً، لكن دون ذلك لن يحدث تقدم.
لم تستطع أي من هذه المبادرات الجمع بين حمدوك والبرهان في اجتماع مباشر، حتى محاولة وفد دولة جنوب السودان فشلت في الجمع بينهما، وهذا أحدث خللاً لأنهم لم يتمكنوا من جعل حمدوك والبرهان يلتقيان بالرغم من أنهما كانا يلتقيان قبل طرح المبادرات، وكان اللقاء بين حمدوك والمكون العسكري مفتوحاً، لكن عندما تحركت المبادرات انقطع الحوار.
ثورة السودان أكدت أن العسكر يقتلون كل من يقف في طريق سيطرتهم وشهوتهم للسلطة والمال، أياً كان انتماؤه: يسار، يمين، ليبراليون، لذلك على الشعب أن يتوحد ضدهم، بكل تياراته، فلا حياة للشعب السوداني، ولا نهضة، ولا مستقبل، في ظل حكم هؤلاء.
"الرجل العسكري لا يصلح للعمل السياسي، وسبب هزيمتنا في 1967 هو اشتغال وانشغال رجال الجيش بالألاعيب في ميدان السياسة، فلم يجدوا ما يقدمونه في ميدان المعركة". القائد في الجيش المصري المشير عبدالغني الجمسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.