عدنان الصائغ.. عن الشاعر العراقي الذي دسَّ خوفه في شجاعة قصائده!

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/16 الساعة 10:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/16 الساعة 12:59 بتوقيت غرينتش
الشاعر العراقي في المنفى عدنان الصائغ/ مواقع التواصل

مهموم جداً بخوفه من سرقة قصائده، لا مِن قِبل الشعراء، بل من أيدي البنادق وأسلاك القنابل وأذرع الشبابيك الحديدية للزنازين، يكتب عدنان الصائغ الشِّعر في بيته كمن تلد الغزلان في غابة مملوءة بالوحوش، مع كل شطرٍ يتلفت يمنة ويسرة محاولاً التأكد من أنه لا يزال لديه بضع ثوانٍ لإكمال الشطر الآخر، قبل أن تنقض عليه فكوك قانون الطوارئ أو تهمة ترويع الآمنين.

أتخيله في كل صباح عقب الاستيقاظ، وقبل أن يغسل وجهه يتفقد أدراج مكتبه، يتأكد أن كل القصائد موجودة، وأنها كلها مخبأة بعناية، تعتني إحداها بالأخرى، متى ما ذهبت إلى السجن تنظر إلى بعضها، مُرددات الجملة التي قالها أحد السجناء في فيلم عربي قديم لا أعرفه، وأعاد نشرها أحد الكتاب: "ابقى لاغيني وألاغيك".

أتخيلها كعصابة، في البداية يهاجمها الرأي العام ويحتقرها، لما تسببه من تهديد للأمن العام بارتكاب مثل هذه الجرائم، ثم وبعد وقت يؤازرونها، حين يكتشفون أن جرائم مثل "الحرية" و"الأمان" و"الوطن" ليست جرائم كما خيّل لهم.

ترى كل قصيدة الأخرى وهي تُجرجر من قدميها إلى غرفة التحقيق، تنظر لها الباقيات من حديد الزنازين بأن تصمُد.

لا بد أنه قبل ذلك سيكون قد أوصاها جميعاً بالبقاء معاً، بينما يحمي هو ما تركه في رأسه بلا كتابة، إذا ما تعرّض للتحقيق وأنكر وجود أي شيء.

شاعر كهذا لو تجولت في أروقة عقله لقرأت أكثر مما قرأت في كتبه.

عدنان الصائغ.. "يكتب الشعر كما يتنفس"

هو شاعر عراقي، وُلد سنة ١٩٨٨ بالكوفة في العراق، في بيت صغير قرابة نهر الفرات. لا أعرف شيئاً عن جغرافيا العراق، ولا أعرف اسماً واحداً من أسماء شوارع الكوفة، وأظنه كان لا يعرف كذلك، ربما لم تكن هناك لافتات كافية لعنونة الشوارع والمقاطعات وصناديق البريد، ولهذا بدأ بالكتابة مبكراً، حمل على عاتقه رسم أسماء وعناوين لهذه البلدة.

الشارع الأول هو الشارع الذي وقع فيه عدنان الصائغ في الغرام، لهذا سمّاه "نصب الحرية"، ووقف على ناصيته ونقش أول دواوينه، "انتظريني تحت نصب الحرية"، لكني أتصوره حبيباً مُثقلاً، يكتب عن الحب قصيدة وعن الحرب ثلاثاً، يتحدث عن المقاومة أكثر من المستقبل، عن أسرّة السجون أكثر من أثاث البيت الجديد، حتى إنه حين أراد أن يلتقيها حدّد لها موقعاً زمنياً وجغرافياً صعباً "تحت نصب الحرية"، فمتى تتحقق الحرية كي يبنوا لها نصباً؟ وهل لو تحققت تستمر أم تفنى وتصبح "نصباً تذكارياً"؟

مهموم جداً بملكوت السماء، يتأملها حتى وهو ملقى في سجنه الخاص، يُحدث في الأسقف شقوقاً بأخيلته، يصل إليها، يحاول أن يخبّئها في قصيدة، أو يحشرها في خوذته فيكتب عدنان الصائغ "سماء في خوذة"، يشفق على العصافير فيحفظها كذلك بالقرب من رأسه، لأن "العصافير لا تحب الرصاص"، لكنه ومع الأسف، متى ما طالت رأسه الرصاصة وفجرته، تفتتت السماء وتشردت العصافير.

ما الذي يخشاه عدنان؟

"أقلّ قَرْعة باب

أُخفي قصائدي -مرتبكاً- في الأدراج

لكن كثيراً ما يكون القرع

صدى لدوريات الشرطة التي تدور في شوارع رأسي

ورغم هذا فأنا أعرف بالتأكيد

أنهم سيقرعون الباب ذات يوم

وستمتد أصابعهم المدربة كالكلاب البوليسية إلى جوارير قلبي

لينتزعوا أوراقي وحياتي

ثم يرحلون بهدوء".

في جريدة بابل، التي كان يملكها عدي صدام حسين، وفي يوم ١٣ أكتوبر/تشرين الأول ١٩٩٤، وصفوا عدنان الصائغ بالمرتد، ضمن قائمة ضمّت عدداً من الكُتّاب العراقيين المغضوب عليهم. وفي جريدة الزواء في ٢ مارس/آذار عام ٢٠٠٠ وصفوه بالمعادي للوطن. فضلا على تلقيه تهديدات بالقتل فاضطر إلى الفرار سريعاً من العراق.

ولِشدة ما كره عدنان الصائغ الحرب وأَحبَّ السلام، ولشدة ما خاف عدنان الديكتاتورية وأهمّته السجون، ولِكثرة ما كتب عن الحرب الثائرة كتب كذلك عن الحرب غير العادلة، عن الاغتيال والتشرد والمنفى، عن دهس المواطنين لأجل النفط، عن كسر شوكة المقاومة، عن الجندي الثائر.

كتب عدنان الصائغ عن نفسه أنه يمشي في الطرقات محنياً كمن يتأبط وطناً، وأنا أتخيله ممسكاً بحقيبة يحمل فيها ملامح أصدقائه وأحلامه الباهتة، يهده التعب، فيجلس على الرصيف، يحول تعبه إلى قصيدة، ثم يقف حاملاً تعبه ووطنه وأصدقاءه، لا يعرف إلى أين، لكنه يعرف جيداً أنه حتى في المحطة التالية، سيدس خوفه في شجاعة قصائده.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مي قاسم
كاتبة مصرية
وُلدت عام 2000 في مدينة طنطا، أدرس بكلية الهندسة-قسم الاتصالات، صدرت لي رواية «لبلأ.. حكاية لا يبليها التكرار»، وأكتب في مجالات السينما والأدب والتراث الفني.
تحميل المزيد