القمح سلعة استراتيجية تدخل في العديد من أنواع الغذاء، وخلال الأيام الأخيرة ارتفعت أسعار القمح عالمياً لأعلى مستوى منذ خمس سنوات على الأقل، لعدة أسباب من أبرزها انخفاض إنتاج المحاصيل في عدد من أكبر الدول المنتجة للقمح في العالم، حيث تراجعت صادرات القمح الروسي بنسبة 32٪ في الموسم الحالي، وارتفعت تكاليف الشحن، والقفزة في أسعار الأسمدة، وزيادة أبرز منتجي القمح لقيمة التعريفات التجارية حيث بلغت ضريبة الصادرات الحكومية الروسية 69.9 دولار للطن.
تلك التطورات ألقت بظلالها على مصر التي تحتل المركز الأول عالمياً في استيراد القمح، فمصر تستهلك سنوياً 18 مليون طن قمح بحسب تصريحات وزير التموين "علي المصيلحي" في عام 2021، وتنتج ما بين 8 إلى 9 ملايين طن قمح، وتستورد في حدود 11 مليون طن قمح على الأقل.
زيادة سعر القمح عالمياً تؤدي إلى زيادة تكلفة الاستيراد، ففي موازنة العام المالي 2021/2022 حسبت وزارة المالية المصرية سعر طن القمح بيع بمبلغ 255 دولاراً. لكن مؤخراً اشترت الهيئة العامة للسلع التموينية 180 ألف طن من القمح من روسيا بمتوسط سعر 332.3 دولار للطن فضلاً عن 29.50 دولار للشحن، وذلك بعد أيام قليلة من شرائها 360 ألف طن من القمح من روسيا ورومانيا وأوكرانيا بمتوسط سعر 328.05 دولار للطن. أي أن الزيادة في سعر طن القمح عن سعر الموازنة بلغ قرابة 80 دولاراً للطن. أي تكلفة ارتفاع الأسعار ستصل إلى 880 مليون دولار، وهو مبلغ ضخم في ظل الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد.
تلك الزيادات انعكست أيضاً على شركات المخبوزات التي سارعت لزيادة أسعار منتجاتها، على سبيل المثال رفعت شركة إيديتا للصناعات الغذائية سعر منتجات "مولتو" إلى ثلاثة جنيهات وأربعة جنيهات من جنيهين وثلاثة جنيهات في حين أبقت الشركة على أسعار منتجات "مولتو" البالغة 5 جنيهات دون تغيير.
الإجراءات الحكومية لمواجهة ارتفاع أسعار القمح؟
وفي مواجهة تلك الزيادات ألغت الحكومة 4 مناقصات دولية لشراء القمح خلال العام الحالي، ووافقت وزارة الزراعة على مقترح باستيراد القمح من لاتفيا للمرة الأولى. كما تحدث وزير التموين مجدداً عن ضرورة زيادة سعر الخبز المدعم بهدف مواجهة عجز الموازنة وارتفاع التضخم في ظل تخصيص 51 مليار جنيه في الموازنة لدعم الخبز، وهو ما يستفيد منه 71 مليون مواطن. وهي الزيادة التي أشار السيسي في أغسطس/آب الماضي لنيته اعتمادها.
أين الخلل؟
في ظل الأهمية الاستراتيجية للقمح نجد أن الحكومة غير حريصة على تقليل نسبة الاستيراد منه وزيادة رقعة زراعته بمصر بمعدل يوازي الزيادة في الاستهلاك، فقد انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي من القمح عقب التراجع عن برنامج بدأ في عام 2012 لسد العجز في إنتاج القمح. فبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بلغ متوسط الاكتفاء الذاتي من القمح 56.7 ٪ عام 2012/2013، وأشار إلى إمكانية زيادة نسبة الاكتفاء الذاتي لتصل إلى 66.9٪ في حال استقطاع جزء من المساحة المزروعة بالبرسيم المستديم لتتم زراعتها بالقمح، ولكن مع تغير السياسة الزراعية للبلاد مع التغير السياسي الذي حدث في 2013 انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي إلى 40% في عام 2019.
أما الإمارات التي تعاني هي الأخرى من شح الموارد المائية وتستورد نحو 90% من احتياجاتها الغذائية فقد دفعت بشركاتها لتستثمر بالزراعة في الخارج، وتستحوذ حالياً على مساحة تصل إلى 4 ملايين و250 ألف فدان في 60 دولة حول العالم.
الحلول المقترحة
فضلاً عن زيادة نسبة الأراضي المزروعة بالقمح، والعناية بالبحث العلمي الخاص بإنتاج سلالات أكثر إنتاجية وأقل استهلاكاً للمياه، يمكن الاستفادة بالتجربة الخليجية في تعويض العجز بالقمح، فالسعودية أطلقت مبادرة في عام 2009 لتحقيق الأمن الغذائي اعتماداً على الاستثمار الزراعي بالخارج. وضمن هذه المبادرة قُدم العون المادي للمستثمرين السعوديين بالخارج بنسب تصل إلى 60% من تكاليف الإنشاءات ومستلزمات الإنتاج، بالإضافة إلى الدعم السياسي عبر اتفاقيات ثنائية مع الدول المستقبلة للمستثمرين لتسهيل عملهم خارجيًا مع تأمين تصدير 50% على الأقل من إنتاجهم إلى المملكة. وحاليا تستحوذ السعودية على مساحة 4 ملايين فدان حول العالم.
أما الإمارات التي تعاني هي الأخرى من شح الموارد المائية وتستورد نحو 90% من احتياجاتها الغذائية فقد دفعت بشركاتها لتستثمر بالزراعة في الخارج، وتستحوذ حالياً على مساحة تصل إلى 4 ملايين و250 ألف فدان في 60 دولة حول العالم.
والمؤسف أن الشركات السعودية والإماراتية تستثمر في الزراعة المصرية لكن عبر الاعتماد على نمط إنتاج رأسمالي قائم على المزارع الاستثمارية الكبيرة على حساب دعم المحاصيل الاستراتيجية والزراعة، حيث تستحوذ شركة الراجحي السعودية وشركة الظاهرة الإماراتية للتنمية الزراعية التي يملكها الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان على 100 ألف فدان لكل منهما موزعة بين توشكى وشرق العوينات والصالحية والنوبارية. لكن الملفت أن مساحة مزروعاتهما للقمح بمصر تبلغ 6000 فدان فقط من بين 200 ألف فدان تستثمران فيهما.
وقد تمثل الأراضي الزراعية الخصبة بالسودان فرصة للاستثمار الزراعي المصري في القمح بدلاً من البقاء رهينة لتقلبات الأسعار العالمية التي تثقل كاهل الموازنة المالية، وترهن القرار المصري للخارج. فعندما قررت مصر في عام 2016 منع استيراد القمح الذي يحتوي على فطر الأرغوت، قررت روسيا بالمقابل حظر استيراد الفواكه والخضراوات المصرية مما دفع الحكومة المصرية للتراجع عن قرارها.
فهل يُعاد إحياء مشروع الاكتفاء الذاتي من القمح؟ أم ستكتفي الحكومة بزيادة سعر الخبز المدعم، وتحمل المواطن تداعيات سياساتها الزراعية؟
المصادر
- https://shortest.link/1MWd
- https://shortest.link/1MWj
- https://bit.ly/3Fj8pGT
- https://bit.ly/3CpNL5T
- https://bit.ly/3wObxYl
- https://bit.ly/3l1xbnp
- https://bit.ly/3Cmgclx
- https://bit.ly/3qDBWad
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.