هل أصبحت خطبة الجمعة ثقيلة لهذه الدرجة؟ لمَ أشعر بثقل يوم الجمعة، وأن ورائي شيئاً عويصاً يجب أن أقضيه فقط دون مشاعر داخلية تجتاحني، العيب فيّ أم في أمر مجهول منغلق عليّ؟
لماذا بدأت في السنوات الأخيرة نستشعر أنها محض طقوس لا أحاسيس فيها أو روحانيات؟
فضل صلاة الجمعة في الدين الإسلامي عظيم، فهي ليست صلاة مكوّنة من ركعتين وفقط، بل معانيها أكثر من ذلك المعنى. صلاة الجمعة تجمع المسلمين كل أسبوع لتتلاقى قلوبهم قبل أجسامهم. أرواحهم ترتقي في هذا اليوم لمستوى آخر، إنه بمثابة يوم يُحيي فيه باقي أيام الأسبوع، في طياته نوع من التجانس الغريب، يضيء قلوب المحبين، يجعلك تقول: "نعم لقد كنت أحتاج لهذا اليوم كي أعيد قلبي نظيفاً مرة أخرى من التراب الذي غطاه باقي الأيام الفائتة".
فيوم الجمعة لا تقتصر بركته في الصلاة أو الخطبة فقط، بل هناك أيضاً بركة الصلاة على النبي، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ) رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بإسناد صحيح، كما أيضاً قراءة سورة الكهف في هذا اليوم المبارك تضيء ما بين الجمعتين، قال رَسُول اللَّهِ ﷺ: (مَنْ قرأَ سورةَ الكهفِ كما أُنْزِلَتْ كانَتْ لهُ نُوراً يومَ القيامةِ، من مَقَامِهِ إلى مكةَ، و مَنْ قرأَ عشرَ آياتٍ من آخِرِها ثُمَّ خرجَ الدَّجَّالُ لمْ يَضُرَّهُ) صححه الألباني.
الأدعية في يوم الجمعة لها فضل كبير، فمن ساعات الاستجابة المذكورة في أحاديث سنة النبي هي ساعات يوم الجمعة، وكما رواه أبو داود والنسائي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، لَا يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئاً إِلَّا آتَاهُ إِيَّاهُ فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ))، ومن لم يذهب لصلاة الجمعة ثلاث مرات متتالية عمداً دون عذر شرعي فسوف يطبع الله على قلبه بالجهل والقسوة، قال الرسول ﷺ: (مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُناً بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ )، وصححه الشيخ الألباني.
كما رأينا ففضائل يوم وصلاة الجمعة كثيرة بصلاتها وبأذكارها وبأدعيتها التي تحتل مركزاً مهماً وبركة في هذا اليوم دوناً عن أي يوم آخر في الأسبوع، ولن يسعنا أن نذكرها جميعها، لكن ما نحن بصدده في هذه المقالة ليس ذكر جميع الفضائل.
ما يهمنا هي فضيلة واحدة تعتبر الأهم في يوم الجمعة، وهي فضيلة خطبة الجمعة، كانت خطبة الرسول ﷺ يقدم فيها الأمور الاجتماعية والسياسية والفقهية، ويتداول فيها جميع مسائل الحياة، ويخرج الصحابة مستفيدين ومستزيدين معرفة ودراية بأمور دينهم، كان يتمتع محمد ﷺ بأسلوب خطابي ممتع وموعظ في آنٍ واحد، من لغة الجسد وأسلوب التحدث والكاريزما الطاغية، ليس هذا غريباً على خير البشر والرسول المرسل من الله سبحانه وتعالى، لكن الغريب في الأئمة والخطباء في هذا العصر الذين يفتقرون لخصال شتى، رغم أنهم من المفترض أنهم يقتدون بخاتم الأنبياء ويسيرون على خطاه، ويأمرون الناس والمسلمين بذلك، فلماذا لا يقتدون برسول الله ﷺ في إلقاء الخطب باحترافية؟!
ولماذا بعض الخطباء في يوم الجمعة يقرأون من ورق دون تغير نبرة صوتهم أو تحريك جسدهم على حسب موضع كل كلمة وجملة، إنما يلقونها كأنها درس إنشاء لا أحاسيس فيه ملحقة أو مشاعر؟، ألسنا مأمورين بإبلاغ الدين بأحسن طريقة؟!
خطبة الجمعة عبادة ويجب أن تؤدى بأفضل صور ممكنة، لا بهذا الشكل الهزيل. لكن من المذنب والمتسبب في هذه المعضلة؟ هل هم الأفراد أم الحكومات؟
لنعرف المشكلة في أي شيء لا ننظر لنهايتها، بل ننظر لبدايتها ثم نسير خطوة خطوة لنصل للمتسبب الأساسي، هذا ما سنفعله معاً.
المسببات المحتملة
- ضعف منظومة التعليم
المدارس والجامعات الدينية هي المصدر الأساسي للتعلم الديني الشرعي، بينما توفر آلية التعلم أيضاً، ككتب وأساتذة حاصلين على شهادات الماجستير والدكتوراه، مما يوفر البيئة المناسبة للتفقه والتعلم. لكن هل توفر هذه الأماكن كل ما يجعل الأئمة أو الشيوخ المتخرجين منها خطباء جيدين متمكنين من أساليب الإلقاء والخطابة؟
نعم، من المفترض ذلك، من خلال مواد الخطابة، لكنني أعتقد أن في السنوات الأخيرة قد تم إهمال هذا الجزء من منظومة التعليم، وتقديمه بصورة ضعيفة للغاية، لقد أصبحت تدرس كمادة إنشائية نظرية، وليست عملية، والتي كانت من الواجب أن تضيف لطالب العلم الشرعي أو الديني مهارة عالية الجودة، لكن من المحبط أنها لم تقم بذلك.. إلا من رحم الله!
- طريقة توزيع الأئمة على المساجد
عندما يتخرج طالب الشريعة، يتم توزيعه على الوظائف على حسب القسم المتخرج فيه، وظائف إدارية أو عملية، ووظيفة إمام المسجد وظيفة عملية؛ لما فيها من إمامة الصلاة، وإلقاء الدروس، وإلقاء الخطب في يوم الجمعة، فمن المفترض أن تتوفر جميع الصفات والمهارات اللازمة لتواكب تلك المهام، فوزارة الأوقاف تختبر الإمام قبل مزاولة مهنته، لكن ما أستغربه حقاً أنه كيف يخرج من تحت هذه الاختبارات الخطباء أصحاب المستوى المتدني من الخطابة والعلم! هل بسبب ضعف من يختبرونهم في الوزارة أم أمر يخفى على الأفراد العاديين؟، أم المشكلة في المنظومة كاملة؟!
- غياب المتابعة بعد التعيين
بعد التوزيع من خلال الأجهزة المتحكمة بالمساجد كوزارة الأوقاف.. يجب وجود لجنة متخصصة عالية الجودة تراقب مستوى الخطباء والأئمة في المساجد، ومدى كفاءتهم في ممارسة الوظيفة الموكلة لديهم، على حد علمي يوجد تلك اللجنة، لكن أين الرقابة؟، أين المهنية في العمل؟، أين تطوير من هو سيئ وتحسين من هو محترف وجيد!
- سلبية رواد المساجد
إن مهمة الأفراد أن يقوموا بإبلاغ عن أي ضعف أو وهن من قِبل الإمام أو الخطيب للجهات الرقابية؛ لأن الفرد من حقه أن ينال العلم الشرعي والديني الجيد ذا الجودة العالية، ولا يترك أحقيته في ذلك، فحياته الدينية مرتبطة بجميع حياته كالجسد الواحد، فإن لم يقدم الأفراد خطوة إيجابية نحو الإصلاح، فسوف يظلون بعيدين عن أخذ العلم المناسب من الجهات الدينية المختصة، فالسلبية تقضي على كل شيء على المدى البعيد.
كما رأينا في النقاط السابقة بعض الأسباب المؤدية لضعف الخطابة والإمامة، والأمر يحتاج لبحث مطول، من خلال علماء الدين وعلماء الاجتماع والخطبة، لكل واحد منا المسؤولية في تقديم أفضل ما يكون لإصلاح المجتمع من الآفات المتغلغلة فيه من أصغر آفة إلى أكبرها، قال النبي ﷺ: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) متفق عليه، فمن خلال الحديث النبوي السابق نرى أن كل فرد في المجتمع مسؤول عن واجب خاص به، والخطيب أو الإمام مسؤول عن المصلين ورواد المساجد لتعليمهم دينهم بأرقى صورة ممكنة من أوامر ونواهٍ؛ فهم رعيته، دون نقصان أو زيادة، بصورة ممتعة مستنيرة؛ لكي تكون المساجد معمرة بالعالمين بدينهم.
ولا ننسى أن نقول في آخر حديثنا، إن لكل فرد عليه واجب أن يفقه نفسه بدينه حتى ولو ضعفت الإمامة بالمساجد، ما علينا فقط أن نقوم بأكبر قدر من الاجتهاد والتعب للوصول لما نبتغيه من إحسان، قال الرسول ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ) رواه البخاري، فصلاح الفرد من صلاح المجتمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.