“الريف المصري يتفوق على أوروبا”.. لماذا تثير الأرقام الرسمية للتضخم السخرية؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/16 الساعة 09:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/16 الساعة 10:32 بتوقيت غرينتش

بينما يئِنّ المصريون من الارتفاعات المتتالية لأسعار السلع والخدمات، التي تشارك الحكومة بنصيب كبير فيها، برفعها لأسعار الوقود والكهرباء والعديد من الخدمات، تخرج الحكومة عليهم بإعلان نسب منخفضة لمعدلات زيادة الأسعار -معدل التضخم- ما يجعل تلك الأرقام الرسمية للتضخم مجالاً لسخريتهم، ودليلاً واضحاً على انفصال الحكومة عما يعايشونه من متاعب. 

وكانت عودة النشاط للاقتصاد العالمي بعد تعاطي مئات الملايين الأمصال الواقية من فيروس كورونا قد زادت من الطلب على السلع والخدمات، التي اصطدمت بارتفاع أسعار الشحن ونقص الحاويات وتذبذب أداء الاقتصاد الصيني، ما زاد من أسعار الوقود شاملة النفط والغاز الطبيعي والفحم، وكذلك أسعار الحبوب والأسمدة والمعادن والمواد الخام. 

وها هو مؤشر الغذاء العالمي الذي تعلنه منظمة الأغذية والزراعة لشهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الحالي، يشير إلى ارتفاع بنسبة 31.8%، بالمقارنة لما كان عليه بنفس الشهر من العام الماضي، نتيجة ارتفاع مؤشره الفرعي الخاص بأسعار الحبوب بنسبة 22% خلال نفس الفترة، ونفس النسبة للحوم، خاصة الدواجن، والسكر بنسبة 40%، ومؤشر الزيوت النباتية 73.5%، ومنتجات الألبان بنمو 15.5%.

ونظراً لكون مصر مستوردة صافية للغذاء، حيث تتدنى نسب الاكتفاء الذاتي بها لزيوت الطعام والقمح والذرة والفول والعدس، كما تستورد اللحوم والأسماك ومنتجات الألبان وحتى الأرز، الذي كانت تشتهر بتصديره، فقد انعكس ذلك على ارتفاع أسعار المنتجات المحلية لنفس السلع، إلى جانب زيادة أسعار شحنها.

فارتفاع سعر القمح عالمياً انعكس على أسعار منتجاته من الدقيق والمكرونة والمخبوزات، وانعكس ارتفاع سعر السكر وزيوت الطعام والسمن على أسعار المنتجات الغذائية، التي تستخدم تلك المواد، وقامت تلك الشركات برفع أسعار منتجاتها رغم حالة الركود بالأسواق.

التضخم المستورد أحد الأسباب 

ومثل ذلك فعلت شركات منتجات الألبان، وهكذا زادت أسعار السلع الغذائية التي امتدت إلى ساندويتش الفول والفلافل، الذي يمثل الغذاء الشعبي الرخيص لعموم المصريين، والشاي والمشروبات بالمقاهي الشعبية. 

وساهم ارتفاع مواد البناء في ارتفاع تكلفة البناء، كما ساهم ارتفاع أسعار القطن في ارتفاع تكلفة المنسوجات والملابس الجاهزة، وارتفاع أسعار المعادن في تأثر الصناعات التي تعتمد عليها. 

ومع ارتفاع نسب التضخم في الدول المورّدة لمصر، فمن الطبيعي أن ينتقل هذا التضخم إلى مصر خلال عمليات الاستيراد التي تتم من تلك البلدان، حيث زادت نسبة التضخم في أكتوبر/تشرين الأول بدول عديدة موردة لمصر، مثل الأرجنتين وتركيا وأوكرانيا والبرازيل وروسيا وغيرها. 

وساهمت الحكومة في زيادة معاناة المصريين بزيادتها لأسعار الكهرباء، للاستخدامات المنزلية، في بداية يوليو/تموز الماضي، بنسب وصلت إلى 26%، كما رفعت أسعار البنزين ثلاث مرات في أبريل/نيسان، ويوليو/تموز، وأكتوبر/تشرين الأول، ورفعت سعر المازوت لعدد من الصناعات في أكتوبر/تشرين الأول، ومؤخراً زاد سعر الغاز الطبيعي للصناعة. ومن الطبيعي أن ينعكس رفع سعر الوقود على تكلفة الإنتاج ونقل السلع والمواصلات.

ورافق ذلك أسباب أخرى محلية، أبرزها الاحتكار الموجود في عدد من السلع الأساسية، وعشوائية التجارة الداخلية، وتعدد الوسطاء خلال تداول السلع، وارتفاع نسب الفاقد خلال مرحلة الإنتاج والتداول لعدد من السلع، مثل الخضراوات والفاكهة والحبوب، والذي يقوم المنتجون بتحميل أثره على سعر المنتج النهائي.

الريف المصري يتفوق على أوروبا!

وفي ضوء هذا المناخ المتخم بالأعباء على المصريين، تخرج عليهم الحكومة ببيانات التضخم السنوي الخاصة بشهر أكتوبر/تشرين الأول من العام الحالي، والتي تعبر عن معدل الارتفاع للأسعار ما بين أكتوبر/تشرين الأول من العام الحالي ونفس الشهر من العام الماضي، لتشير إلى بلوغ نسبة التضخم 6.3% فقط. 

وهي نسبة التضخم الخاصة بالحضر، أي بالمدن المصرية، رغم أن 58% من السكان يعيشون بالريف، بينما 42% فقط هم من يعيشون بالمدن، وكانت البيانات الرسمية غير المتاحة للجمهور، والتي تحتاج لجهد من المتخصصين لمعرفة تفاصيلها، قد أشارت إلى بلوغ نسبة التضخم بنفس الشهر بالريف 8.4%، ليبلغ متوسط نسبة التضخم بأنحاء البلاد شاملاً الحضر والريف 7.3%.

ويزداد التعجب من البيانات التفصيلية للتضخم بالحضر، والتي لا يتم إتاحتها للجمهور بالمرة، والتي تشير لبلوغ النسبة 3.5% فقط بمحافظة أسوان، بأقصى جنوب البلاد خلال 12 شهراً، والتي تعرضت مؤخراً لسيول أدت لخروج العقارب وإصابة المئات من لدغاتها، ونسبة 4.1% بمحافظة البحر الأحمر، التي يزيد مكون النقل أسعار السلع بها، نظراً لبعدها الجغرافي عن الوادي.

و4.5% بمحافظة الإسماعيلية، التي شهدت مؤخراً قطع أحد المواطنين لرقبة آخر والسير بها بالشارع، ونسبة 5% بمحافظة السويس و5.3% ببورسعيد، اللتين تعتمدان على المحافظات الأخرى لتلبية احتياجاتها من المواد الغذائية، كمحافظتين حضريتين ليس بهما زراعة. 

وتكررت نفس الأرقام الرسمية غير الواقعية للتضخم بريف المحافظات، والتي تضمنت بلوغ النسبة 4.7% بأسوان و5.2% بمحافظة كفر الشيخ ، و5.5% بأسيوط و6.2% بمحافظة المنيا و7.2% بالإسماعيلية و7.3% بمحافظة سوهاج، والمعروف أن مكون النقل يزيد من أسعار السلع بمحافظات الجنوب مثل أسوان وأسيوط والمنيا وسوهاج. 

وهكذا تفوقت نسب التضخم المزعومة بريف تلك المحافظات على نسب التضخم السنوية في العديد من البلدان الأوروبية خلال نفس الشهر، والتي بلغت 7.9% برومانيا و6.8% ببولندا و5.5% في إسبانيا و6.2% بالولايات المتحدة. 

كما أن الأمر لا يقتصر محلياً على ارتفاع أسعار السلع الغذائية، حيث يقوم الحرفيون بمختلف الحرف كالسباك والنجار والميكانيكي وغيرهم، وأصحاب المهن الحرة من أطباء ومهندسين ومحاسبين وغيرهم برفع أسعار خدماتهم، للحصول على نفس كمية سلع الغذاء التي كانوا يحصلون عليها قبل الغلاء، واستناداً لتوالي رفع أسعار الحكومة لخدماتها، مثل رسوم استخراج وثائق الأحوال المدنية وجوازات السفر وملصق السيارات وغيرها. 

وزن نسبي أقل للإنفاق على الطعام

ويظل السؤال عن أسباب تلك المعدلات الحكومية المنخفضة للتضخم عن الواقع، وتأتي الإجابة مستندة إلى عدة عوامل، أبرزها التدخل الرسمي في عينة السلع والخدمات التي يتم قياس التضخم على أساسها، حيث يتم التركيز على الأسعار الحكومية بالمنافذ التابعة لوزارة التموين، ففي الخبز على سبيل المثال يتم الاعتماد على سعر الخبز المدعم، الذي لم يتغير منذ سنوات، بينما غالب الاستهلاك من خبز القطاع الخاص، الذي يتوالى رفع سعره وإنقاص وزنه.

 والأهم من ذلك وضع أوزان نسبية لإنفاق المصريين على السلع والخدمات لا تتسق مع الواقع، حيث تحدد نسبة 36% لإنفاق المصريين على الطعام والشراب، بل إن تلك النسبة تصل أقل من 33% بالحضر.

بينما عموم المصريين من الفقراء والطبقة الوسطى ينفقون غالب دخلهم على الطعام، لنسب قد تصل إلى 80% من الدخل لدى الفقراء، يليها دفع فواتير المرافق من كهرباء ومياه شرب وغاز طبيعي، والنتيجة أنه مهما زادت أسعار الغذاء فلن تنعكس تلك الزيادة بنفس حجم أثرها في رقم التضخم الرسمي.

كما أن عينة السلع والخدمات متسعة حتى تصل إلى 945 سلعة وخدمة، بينما يتركز إنفاق غالب المصريين على عدد قليل من السلع، بدليل أنه عندما أتاحت وزارة التموين أمام حاملي البطاقات التموينية، الاختيار من حوالي 20 سلعة بقيمة الدعم المخصص لهم، كان التركيز للطلب على ثلاثة أصناف فقط وهي الزيت والسكر والأرز، ما دفع الوزارة لوضع حد أقصى للكميات للفرد على تلك السلع.

 وتتسبب كثرة سلع وخدمات عينة حساب التضخم في ضعف تأثير حساب تغير أسعار السلع الرئيسية كبسط للنسبة، على مقام النسبة البالغ 945 سلعة وخدمة. 

سبب آخر وهو محاولة إظهار الحكومة بأنها قد استطاعت احتواء التضخم، وأن معدله بمصر أقل من بلدان أخرى، نتيجة ثمار برنامج الإصلاح الاقتصادي المزعومة، وتوفير السلع بالمجمعات الاستهلاكية ومنافذ البيع للسلع الغذائية التابعة للجيش والشرطة. وكما يقول البعض إنَّ من يزوّر نتائج الانتخابات من السهل عليه التلاعب في المؤشرات الاقتصادية، ومنها معدل التضخم. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ممدوح الولي
كاتب صحفي وخبير اقتصادي
كاتب مصري وخبير اقتصادي، نقيب الصحفيين المصريين السابق، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الصحفية سابقاً.
تحميل المزيد