ليس ثمة فرص ثانية، الرجال كلهم خائنون، الأصدقاء يغدرون عادة، الأشقاء لا أمان لهم، والآباء عادة سيئون، العائلات مفككة وضائعة، والسيدات بائسات على أي حال.. باختصار الوضع مزر وليس ثمة خلاص إلا بالعمل والاستقلال والبعد عن الجميع كي نثبت لهم أننا الأقوى والأفضل، والأهم أننا نستطيع أن نحيا وحدنا.. خلقت العلاقات للتخلص منها لا لإصلاحها والإبقاء عليها!
هذه بالضبط الأفكار الرئيسية التي تتركها حلقات مسلسل " إلا أنا " في نفس مشاهدها، قصة بعد أخرى، تتأكد الصورة القاتمة، ينفعل المشاهد مع الظلم الشديد والواقعي جداً الذي يقع على بطلات المسلسل، ثم تنتهي الحلقات سريعاً بالحل السحري ذاته "الطلاق".
المسلسل ناجح بلا شك، صار تريند وتصدر محركات البحث، كما صار حديث الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي يشهد على ذلك كم "الميمز" والمجموعات التي انطلقت عبر "فيس بوك" مثلاً لمناقشة ومتابعة حلقات المسلسل، الذي دخل بيوت ملايين المصريين لكنه لم يخرج منها كما دخل.
من يقلد من؟
انبهرت أمي التي لا تشاهد التلفاز عادة بالمسلسل "واقعي جداً" هكذا علقت على المشكلات التي طرحها المسلسل بدرجة عالية من الدقة والجودة في موسمه الجديد، قصة بعد أخرى، تغلغل كتاب المسلسل في صميم مشكلات السيدات في مصر، وطرح نماذج منتشرة بشكل كبير، الزوج الطفل الذي تتحكم والدته في حياته، الزوج المجرم الذي يجيد الخداع والضرب والإهانة، الزواج اللامبالي الذي يقلل من قيمة زوجته باستمرار وبالطبع الزوج الخائن بطل الموسم وكل موسم.
يقولون إن الفن هو مرآة المجتمع، فيتحد مع آلام المجتمع ويقدم ما يعانيه الناس على الشاشة تمهيداً لحله، تحت هذه الذريعة انعدمت النماذج الإيجابية في مسلسل" إلا أنا " فقدم المسلسل الصورة القبيحة واستقبلها المشاهد ليزداد واقعه قباحة، حدث هذا مع صديقتي، التي تعاني شعوراً بانعدام الأمان منذ فترة مع زوج ليس مثالياً ولكنه ليس سيئاً للدرجة التي تستدعي الانفصال، أخبرتني "أنا بستنى المسلسل كل يوم عشان أشوف هعمل إيه في حياتي".
للأسف توحدت صديقتي، ككثيرات أعرفهن مع المسلسل للدرجة التي جعلته بمثابة نموذج إرشادي بالنسبة لها، فإذا كانت تلك هي مشكلتها تراها على الشاشة، إذاً فالحل هو ذاته المطروح على الشاشة أيضاً.
"أنا طلبت الطلاق" قالتها لي وسط حالة من الذهول سيطرت علي، بيت عامر وطفلان قد ينهار لأجل مسلسل، صحيح أن الأهل تدخلوا سريعاً لكن بقي السؤال داخلياً، كيف أمكن لمسلسل أن يرجح كفة الطلاق في عقل صديقتي على أية حلول أخرى؟!
الطلاق للجميع
يقدم صناع "إلا أنا" مسلسلهم على أنه دراما مستوحاة من قصص حياتية تصف معاناة المرأة في المجتمع المصري، حقاً تعاني المرأة التي تعول بحسب نتائج تعداد مصر 2018 فإن 3.3 مليون أسرة، أي أن النساء في مصر يعلن ما يعادل 30% من الأسر، ولا يشفع ذلك لهن كي لا يقعن تحت طائلة العنف، يكفي أن نعلم أن 5 ملايين و600 ألف سيدة في مصر يتعرضن إلى عنف الزوج أو الخطيب سنوياً بحسب الإحصاءات الرسمية، تصاب 2 مليون و400 ألف منهن نتيجة هذا العنف، لكن المسلسل الذي يطرح المشكلة من قلب الواقع يطرح حلاً واحداً للجميع "الطلاق والاستقلال" في كل الحالات وعلى كافة المستويات، الغنية والفقيرة، الشابة والعجوزة، القادرة وغير القادرة، الطلاق هو الحل السحري والناجز، تستخدمه المرأة لتسارع إلى سوق العمل كي تبدأ حياتها وحدها.
لا حلول وسط ولا أفكار مختلفة، الطلاق وحده هو الحل الذي تواصل حكايات المسلسل في موسميه الأول والثاني طرحه كبوابة للسعادة والانطلاق، ربما كانت تلك الفكرة غائمة إلى حد ما حتى جائت الحدوتة التي تعرض حالياً "حكايتي مع الزمان" بطولة ميرفت أمين، لتطرح فكرة الطلاق كحل حتى عقب مرور أكثر من 30 عاماً على الزواج، ما أبرز فكرة "الطلاق للجميع" التي يقودها المسلسل والتي طرحت حالة من الشك والغضب في نفوس المشاهدين.
"عقدوا الشباب من الجواز وحالياً داخلين على كبار السن" لفتني هذا التعليق بالذات لأحد المشاهدين، وأيضاً ذلك التعليق عبر إحدى الصفحات الشهيرة والتي خرجت بالخلاصة من المسلسل "ملخص مسلسل " إلا أنا " الموسم ده، لو انتي لسه متجوزة قريب و ما خلفتيش لازم تلحقي نفسك وتطلقي، ولو انتي خلفتي بردو لازم تطلقي، ولو عمرك عدى الأربعين وولادك في الجامعة اتطلقي بردو ولا يهمك، أما بقى لو عمرك عدى الـ 70 وجوزتي كل أولادك لسه قدامك الفرصة إنك تطلقي.. بصي حتى لو ما اتجوزتيش اتطلقي احتياطي".
مشاكل واقعية وحلول خيالية
لا يمكن لعاقل أن ينكر المشاكل الواقعية التي يقدمها المسلسل، بشكل مؤلم، أم تصاب بالسرطان وتترك خلفها عائلة تائهة من دونها "بيت العز"، فتاة جميلة ترزق بزوج تابع لوالدته وأخرى بائسة ترزق بزوج مدمن في حدوتة "بدون ضمان"، زوج يفاجئ زوجته بالغدر والنكران عقب 20 عاماً من الزواج "على الهامش" وأخيراً طلاق عقب 36 عاماً من الخيانة والإهانة وسوء المعاملة وعلى الطريق يحظى الأبناء بنصيبهم أيضاً من الطلاق والانفصال "حكايتي مع الزمان".
واقعية حد الوجع أو كما وصفتها الشركة المنتجة "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية" على لسان يسري الفخراني، رئيس المحتوى الدرامي "نقدم دراما البيوت المصري.. قصص من لحم ودم" لكن عند تلك النقطة يقف كل شيء، الاجتهاد والتركيز والواقعية والجودة، ليبدأ سيل من الخيال واللامنطق، بداية من الديكور الفخم للغاية والمتكلف الذي لا يراعي الفروق بين الشخصيات، مروراً بالحلول والتفاصيل الدرامية الدقيقة لبقية القصة، التي تبدأ بقنبلة في وجه المشاهد ثم تنتهي بحل خيالي هلامي لا يمت للواقع بصلة!
أكثر ما استفزني هو الديكور غير الواقعي للشقة المتواضعة التي سكنتها نرمين الفقي في الحدوتة الثالثة، كيف يمكن لشقة مهجورة في شارع متواضع إيجارها ألف جنيه في الشهر، بإحدى المناطق الشعبية أن تكون بهذه الدرجة من الجودة والديكورات المتقنة، كأننا داخل شقة في الزمالك، كيف يمكن لسيدة باتت ليلتها في الشارع أن تكون ملابسها بهذه الدرجة من النظافة ولشعرها أن يبقى منمقاً بهذه الطريقة؟
الخيال لم يتعلق بالديكور فقط ولكنه امتد للأحداث، العالم ليس ميسراً بهذه الطريقة، والنهايات السعيدة بقوة ليست موجودة إلا في حواديت ما قبل النوم، أو حكايات مسلسل إلا أنا ، لا أحد سيقبل بالطلاق كحل بسبب مشاكل كتلك التي طرحتها الحدوتة الثانية "بدون ضمان" حين واجهت البطلة مريم –هنادي مهنى- تدخلات والدة وشقيقة زوجها، نتحدث عن تدخلات بسيطة من باب المساعدة- فقررت أخيراً أنها سوف تنفصل ليؤاذرها والدها وشقيقها بقوة ويشجعناها على الانفصال، بل ويعطيها طليقها كافة حقوقها، ذكرني ذلك بصديقة لي ظبطت زوجها مع أخرى في منزلها وحين عادة لمنزل أسرتها بأحد الأقاليم قاموا بمعاقبتها لأنها فكرت في الطلاق وتركت بيتها دون الرجوع لهم أولاً، وحين أصرت الشابة على موقفها وانتصرت لغضبها، هددوها بعدم السماح لها بمواصلة العمل إن أتمت الطلاق، فالمطلقة لن تعمل ولكنها ستبقى ببيت عائلتها تخدمهم حتى يأتيها نصيب جديد، هكذا عادت الشابة للزوج الخائن، فنيران خيانته كانت أكثر رحمة من تحكمات أهلها.
الواقع الذي عبر مسلسل " إلا أنا " لا تنتهي فيه القصص بسعادة، فلن تعثر امرأة تركت حياتها العملية لـ20 عاماً على وظيفة بسهولة في مجتمع يضع من بين معايير القبول بالوظائف ألا يزيد عمر المتقبل عن 28 عاماً على أقصى تقدير، لكن الصورة الوردية في حدوتة "على الهامش" الذي تصدر محركات البحث خلال فترة عرضه، جعلت البطلة تعود إلى العمل بل وتحظى بترقية عقب عام واحد فقط من العمل، إلى أي آتون يلقون بالنساء؟ يؤرقني السؤال، على ماذا يشجعون الغاضبات في البيوت؟
كعضوة بواحد من أكبر مجموعات السيدات المطلقات في مصر أرى الواقع القبيح، أرى كلفة الطلاق الحقيقية في دولة يتم فيها الطلاق -غالباً- على الإبراء، ولا تحصل المرأة من قائمة منقولاتها -إذا حصلت عليها- إلا على ما قامت بشرائه، ينتهي كل شيء ودياً في أحسن الأحوال، أما في الغالب فالمحاكم تشهد على قصص لا نهائية من الدمار، أطفال يخضعون للمساومات ويتحولون إلى مادة انتقام، وقوائم منقولات تسلم في الشارع على أرصفة المحاكم، ونفقات للصغار يجتهد الآباء في أن يقلصوها إلى أقل درجة ممكنة برعاية المحاكم.. أرى نصائح المطلقات للمقبلات على الخطوة بعدم الإقدام عليها أبداً إلا في الحالات التي تهدد الحياة، حيث تؤكد السابقات للاحقات أن الطلاق في مصر ليس سهلاً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.