لا بد أولاً من وضع الحراك الدبلوماسي العربي المستجد تجاه سوريا في إطاره العام حتى نفهم دوافعه الحقيقية، وما يمكنه أن يحقق من نتائج. لذلك لا بد من التذكير أولاً بأن إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كانت قد فشلت في صياغة مشروع الشرق الأوسط الكبير وفقاً للرؤية الأمريكية حصراً، لكنها نجحت في تحويل "الشرق الأوسط الكبير" إلى حقيقة جيوسياسية، خاصة بعد تمدد النفوذ الإيراني والتركي إلى منطقة الصراع العربي-الإسرائيلي والنزاعات العربية-العربية.
إضافة إلى ذلك، استطاعت الإدارة الأمريكية السابقة خلق تصدعات دائمة في البنى السياسية والاجتماعية الهشة بالأساس في عدة دول عربية من خلال الصمت عن الاحتراب الداخلي وتزكية صراعات أهلية عبثية لم تخمد نيرانها بعد، وهو ما أدى إلى إنهاك الدول الإقليمية التي ساهمت في تأجيجها أو شاركت فيها. وبالتالي أضحى من البديهيات أن أية إدارة أمريكية سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية سوف تتعامل مع الأزمات والحروب المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط برؤية واحدة لكن بمسارات مختلفة ومتعددة. بمعنى آخر، الملف النووي الإيراني والملف السوري وملف حرب اليمن وغيرها من الملفات باتت مدمجة في ملف واحد ولن تحصل على حلول لها إلا في سلة متكاملة من خلال خرائط معدلة للمنطقة تشارك في رسمها كل الأطراف الفاعلة وفق مبدأ من هو طرف في النزاعات سيكون شريكاً في وضع بصماته على تلك الخرائط، وفقاً لحجمه عندما تنضج مرحلة الحلول وهي مرحلة بعيدة حالياً.
بالنسبة للملف السوري، فإن الموقف الأمريكي واضح برفض أي تعويم النظام القائم في سوريا أو منحه أية شرعية دولية لبشار الأسد، على الأقل في المرحلة القريبة القادمة والقرار الأمريكي بسحب القوات العسكرية من سوريا يهدف إلى خلط الأوراق هناك، بمنح تركيا نافذة جديدة تدخل منها لتعقيد الوضع أكثر. فمن المؤكد أن التواجد الإيراني والتركي المباشر في سوريا لا يزعج أمريكا، لأنه يضمن عدم الهيمنة الروسية على سوريا ومن الممكن أن يساهم هذا التواجد في حرق أصابع روسيا في المياه الدافئة. ذلك الحلم الروسي القديم الذي بدأ يتحقق على الأرض بعد تدخلهم العسكري المباشر.
لا يخفى على أحد أن الصراع الروسي-الأمريكي اليوم على أشده في أوروبا سواء على جبهة القرم في أوكرانيا أو حول مسألة اللاجئين المفتعلة على الحدود البيلاروسية مع أوروبا وما يعنيه ذلك من أن الأولوية هي لمتابعة الصراع هناك بشكل مباشر. مناورات البحر الأسود المشتركة بقيادة القوات الأمريكية خير دليل على ذلك.
بالعودة إلى الحراك الدبلوماسي العربي المستجد نحو سوريا، فهو -بلا شك- سيبقى تحت حدود السقف الأمريكي ولن تجرؤ أية دولة خليجية على تجاوزه. بالتالي، النتيجة الوحيدة المتوقعة هي الاستقبال الحار من قِبَل المسؤولين السوريين للضيوف والسير معاً على السجادات الحمراء في مطار دمشق الدولي.
لكن للأسف هناك من يطلق العنان لخياله ويحمل تلك الزيارات ما لا تحمله بالواقع، فمنهم من يعتقد أن زيارة وزير خارجية الإمارات إلى سوريا تندرج ضمن المساعي القائمة والتي تهدف إلى إعادة سوريا إلى صفوف جامعة الدول العربية بعد تعهدها بتنفيذ لائحة مطالب تخص الشأن الإقليمي. لكن يغيب عن هؤلاء أن النظام السوري ليس في وارد المقايضة، لأنه يعتبر وجوده في جامعة الدول العربية أمراً طبيعياً، وأن من أخطأ هو من أبعده عن مقعده، والمطلوب من المخطئ التصحيح وليس منه، خصوصاً أن تأمين عمق عربي للنظام من خلال جامعة الدول العربية يعادل صفراً بعد أن تحولت هذه الجامعة من جامعة الحضور العربي إلى جامعة الغياب العربي.
النظام السوري يدرك أيضاً أن مشاكله الحقيقية ناتجة عن قانون "قيصر" ومن الحصار المفروض عليه سياسياً واقتصادياً حيث يتخبط في أزمات لا تحصى. إضافة إلى أن هاجسه الأكبر هو في البحث عن تمويل إعادة الإعمار مع بقائه في السلطة وهو على يقين بأنه لا جامعة الدول العربية تمتلك مفاتيح الحل ولا حتى مؤتمرات القمم العربية.
هناك من يعتقد أن هدف تلك الزيارة هو تقديم بعض الإغراءات للأسد لإخراج إيران من سوريا، وهذا الاعتقاد هو مجرد أمنيات.
وهناك من يصوِّر الأمر بأن هدف الزيارة هو دعوة الأسد للتطبيع مع إسرائيل، مستنداً إلى التزامن بين زيارة الأسد وزيارة رئيس وزراء إسرائيل إلى روسيا بفارق شهر واحد تقريباً، حتى هذا الأمر مستبعد في الوقت الراهن عند الطرفين، فإسرائيل التي تعيش حالة مزمنة من عدم الاستقرار السياسي مع زيادة ملحوظة في التصدعات الداخلية الاجتماعية والسياسية؛ حيث لم تتمكن من إبعاد نتنياهو عن رئاسة الحكومة إلا بعد التحالف مع حزب فلسطيني للمرة الأولى في تاريخ الحكومات الإسرائيلية.
لذلك ترى حكومة إسرائيل الحالية أن طريق السلام مع سوريا خصيصاً لن يؤمن لها الاستقرار، بل التصعيد والعدوان هما ما يفعلون.
بالنسبة إلى سوريا فلا تخفى على أحد رغبة الأسد في التطبيع؛ حيث تخلى بشكل لافت عن ذكر القضية الفلسطينية في السنوات الاخيرة حتى إنه يرفض أية مصالحة مع حركة حماس، وهي فصيل ينتمي إلى جبهة الممانعة التي ينتمي إليها، ولكن نتيجة غرقه في أزمات عميقة داخلية وخارجية في كل المجالات، وكل الاتجاهات، لا يشكل التطبيع مع إسرائيل أولويةً له.
هناك قسط آخر تبدو له الزيارة دعوة سوريا للعودة مجدداً إلى الساحة اللبنانية، لكن من المؤكد أنه مهما كانت الحوافز المقدمة فلن تغري سوريا بالعودة بعد أن تحول لبنان إلى مجرد أطلال.
ويمكن الجزم أنه لا ذكر ورد عن لبنان خلال ذلك اللقاء بعد أن تأكد مؤخراً أن طلاق بعض دول الخليج مع لبنان هو طلاق بائن لا رجوع عنه، بعد أن فقد لبنان كل وظائفه لتلك الدول. وما يساق من حجج من تلك الدول هو لحفظ ماء الوجه إذا ما فرضت أمريكا عليهم فاتورة ما لمساعدة لبنان في المستقبل.
يبقى أن يكون هدف الزيارة تمتين العلاقات الثنائية بين البلدين، وهذا أمر طبيعي بين دول بينها علاقات دبلوماسية، أو أن هذه الزيارة أتت في سياق التسابق المستتر على النفوذ في المنطقة بين الإمارات والسعودية، وفي مطلق الأحوال النتيجة هي السير على سجادة حمراء شديدة الأناقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.