تتميز تركيا بوفرة وسائل الإعلام المحلية من قنوات وصحف إلكترونية ومطبوعة، لا سيما مع الطفرة التي أحدثها الإعلام الجديد، الذي ولَّد بدوره مساحةً واسعة من الحرية والإبداع جنباً إلى جنب، إضافة إلى التطور التقني الذي يزيد من جودة الأداء والعرض.
وعلى اختلاف مشارب كل مؤسسة إعلامية نجد أن ما يوصف بالإعلام المحافظ أو المتدين برز بشكل غير مسبوق لم تعرفه تركيا من قبل، منذ تأسيس الجمهورية عام 1923، لا سيما ونحن نتحدث عن نوع من الإعلام عانى الكثير من القمع والضغوطات، خاصة عقب انقلاب مايو/أيار 1960، على الرئيس الراحل مندريس، حيث عمدت الحكومات الانقلابية إلى تكثيف الضغوطات، ما وصل حدّ خنق أي محاولة لمؤسسات الإعلام المحافظة، والتي تريد السير في عكس التيار آنذاك.
كانت مهمة الإعلام المحافظ في تلك الأوقات صعبة للغاية، فهي تقوم بدور المعارضة السياسية، وتُنافح عن القيم والمبادئ الاجتماعية التي آمنت بها وظلت وفيّة لها.
ولم يتغير هذا الحال في الواقع بشكل كبير، بل ظلّ في دائرة ضغوطات السلطة ومقاومة الإعلام المحافظ، مررواً بانقلاب 1980، الذي قاده كنعان إيفرن، وصولاً إلى ما يُعرف بانقلاب ما بعد الحداثة، في 28 فبراير/شباط من عام 1997.
ولعل حقبة انقلاب 28 فبراير/شباط، كانت التحدي الأصعب لهذا النوع من الإعلام في تركيا، حيث واجهت ضغوطات كبيرة بسبب انتقاداتها القوية للقوانين التي انبثقت عن الانقلاب، من حظر ارتداء الحجاب، وإغلاق الصفوف الوسطى بمدارس الإمام-خطيب.
بل إن صحيفة مثل "يني شفق"، التي تأسست عام 1995، وتعتبر الأبرز في ميدان الإعلام المحافظ، دفعت فاتورة كبيرة بسبب مواقفها ضد الانقلاب وقوانينه التي استهدفت قيم المجتمع الإسلامي المحافظ الذي عرفته تركيا.
واجهت صحيفة يني شفق في تلك المرحلة مداهمات أمنية من قبل السلطات في ذلك الوقت، كما تم اعتقال رئيس مجلس إدارة المؤسسة المالكة للصحيفة، مصطفى ألبيرق، وتعرض للتعذيب، فضلاً عن العديد من المواقف الصعبة التي عاشتها يني شفق من أجل إيصال رسالتها.
ومن اللافت أن صحيفة يني شفق وغيرها من وسائل الإعلام المحافظة سجلت دوراً شجاعاً في تلك المرحلة بالذات، ولقد كان هذا الموقف الشجاع بمثابة تحدٍّ كبير تمكنت من خلاله الخروج من المعركة وهي أقوى من ذي قبل، وبينما كان الكثيرون يرون أن هذا الانقلاب سيقضي على أي حلم للمشروع المحافظ سياسيّاً واجتماعيّاً، لكن جرى العكس، فلم تمضِ سوى بضع سنوات حتى برز العدالة والتنمية، وتصدّر الانتخابات، وهو ما مكّنه من تأسيس الحكومة منفرداً، دون الحاجة لحكومة ائتلافية.
صحيفة يني شفق لم تكن الوحيدة في هذه الرحلة الشاقة المكللة بالنجاح، بل هناك العديد من وسائل الإعلام المحافظة في تركيا، التي دفعت ثمناً كبيراً كي تستطيع الوقوف على قدميها، مع الإصرار على وضع بصمة متميزة على كافة الأصعدة، لا سيما الاجتماعية، وذلك من خلال إبراز روح القيم الإسلامية والأصالة التركية والماضي العريق الذي لا يقتصر بالطبع على قرن واحد من الزمن فحسب.
على سبيل المثال "ميللي غازيته"، التي تأسست بإلهام من صاحب "الرؤية الوطنية" (ميللي غوروش)، منذ عام 1973، وكانت أيضاً تحمل الرسالة ذاتها. إلى جانب صحيفة "يني عقد" التي تأسست عام 1993 التي تمتلك قناة تلفزيونية أيضاً.
ومن اللافت في الحقيقة، أنه إلى جانب القنوات ووسائل الإعلام المحافظة بالمعنى الديني والمجتمعي برزت العديد من المجلات، التي تُنشر بشكل أسبوعي أو شهري، في ساحة الإعلام المحافظ في تركيا، لتضع بصمتها أيضاً أمام كمّ هائل من المجلات التي تُنشر في تركيا على اختلاف مذاهبها ومشاربها. ونخص بالذكر هنا مجلات مرموقة مثل "غرتشيك حياة"، و"درين تاريخ".
إن مهمة الإعلام المحافظ في تركيا لم تكن يوماً ما سهلة، بل تأسست في بيئة وأجواء زمنية لم تكن مواتية على الإطلاق، وكانت في مواجهة السلطة من جهة، ومنظّري اللائكية من جهة أخرى، لكنها تمكنت من الصمود، بل وزادت من تعزيز دورها مع مجيء العدالة والتنمية للسلطة منذ عام 2002، لتضع بصمة من المستحيل محوها بعد الآن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.