من المفارقات التي يجب أن تستوقف الأنظار وتؤخذ بجدية، زيادة أعداد المتعلمين، وفي الوقت نفسه عدم تطور المجتمع حضارياً وثقافياً وفنياً وجمالياً.
يشير المفكر الكبير مالك بن نبي إلى أن الثقافة تولد العلم دائماً، بينما العلم لا يولد الثقافة بالضرورة، ولا يمكن استبدال أحد هذين المفهومين بالآخر، فالثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يقاس الفرق الضروري بين التعليم والثقافة.
والمصطلح "ثقف" له أصل لغوى يتصل تاريخه بلغة ما قبل الإسلام، وورد في بعض آيات القرآن الكريم "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" (البقرة: 191) ويذكر لسان العرب المجلد العاشر: يقال ثقف الشيء هو سرعة التعلم، ويقول ابن دريد ثقفت الشيء أي حذقته، ولكن بالرجوع إلى أزمنة سابقة نلاحظ أن المصطلح لم يذكره ابن خلدون، وقبله لم يستخدم في العصر الأموي والعباسي، ولا في اللغة الرسمية، ولا اللغة الأدبية لذلك العصر، مع أن التاريخ في هذه الحقبة يشير إلى أن الثقافة العربية كانت في قمة ازدهارها في ذاك الوقت.
وهناك ما يسمى بظاهرة التثقيف التلقائي، والتي هي ثمرة طبيعية لأي مجتمع، فروما مثلاً كانت لها ثقافة إمبراطورية، وأثينا كانت لها ثقافة حضارية، ولكن لا العبقرية الرومانية ولا اليونانية ابتكرت لفظاً أطلقته عنواناً على ثقافتها.
فالثقافة في صورتها الحية هي وحدة ذات أجزاء متماسكة ومترابطة فيما بينها، بروابط داخلية تحددها عبقرية الشعب الذي وضعها مطابقة لأخلاقه وأذواقه وتاريخه والروابط، هذه هي التي تضع على الثقافة طابعها الخاص لأسلوب الحياة في المجتمع وسلوك الأفراد فيه.
وبينما تتجه الثقافة لهوية الإنسان وانتمائه لمجتمعه، تتجه المعارف المختلفة للتطور والنماء، ويظل الإنسان يتأرجح بينهما، الثقافة تُعدّه، بينما التعليم يعطيه ما يحتاجه من معارف وآليات واختصاص، الثقافة تهذب سلوكه وتعده اجتماعياً، بينما التعليم يعده للانخراط في أدوار معينة.
ويشير الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه الثقافة والمنهج إلى أن مشكله الفلسفة التعليمية التي تهيمن على مدارسنا وجامعاتنا هي الرؤية المعلوماتية التراكمية، حيث الاعتماد على حجم وكم المعلومات لا على طريقة تفسيرها وتصنيفها، ما يؤثر سلباً على قدرات التحليل والتفكير والاستنباط وغيرها من مهارات العقل اللامحدودة.
والحقيقة أنه كلما نمت قدرات الإنسان العقلية ازداد وعياً ومعرفةً وإدراكاً، وبالتالي تحملاً واستشعاراً للمسؤولية، وفهماً لسر حيازته لنعمة العقل، وقدرةً على تحديد الطريق والسعي نحو إراحة الضمير والارتقاء في سلم الأخلاق والمعنويات.
وهو ما نراه واضحاً في التجربة اليابانية مثلاً، والتي يمكن اختصارها في الرقابة الذاتية والشعور الداخلي بالمسؤولية بدون قسر أو تهديد، إنه الضمير، سواء كان مصدره دينياً أو أخلاقياً، وعندما يتصرف شعب كامل على هذه الشاكلة يمكن تحقيق ما حققته اليابان.
يمكننا إذن إدراك كيف حدثت الفجوة بين مستوى مجتمعنا حضارياً ودرجات التعليم التي يحظى بها أفراده رغم زيادتهم نظرياً وعددياً، المشكلة تكمن في الطريقة التي تعلّم بها، والمنظومة التي تقولبت فيها أفكاره والقيم الأخلاقية التي أصبح يؤمن بها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.