ينسب الأفغان اسم جبال الهندوكوش الشاهقة إلى النبي سليمان عليه السلام، ويسمونها باسمه، ذلك أن الأسطورة الأفغانية تقول إن سليمان عليه السلام نقلته الريح إليها، ليطل من فوقها على وسط آسيا والصين وشبه القارة الهندية، وبالمصطلحات العسكرية الحديثة وضع رادارات لمراقبة جميع هذه المناطق.
وبإنهاء وجودها في أفغانستان تكون الولايات المتحدة قد فشلت في تقمص استراتيجية سليمان عليه السلام، إثر تدخلها العسكري المباشر الذي لم تجد بداً منه بعد رفض حكومة أحزاب المجاهدين، التي أعقبت خروج الاتحاد السوفييتي السابق، مقايضة دعم واشنطن مقابل منحها موطئ قدم في أفغانستان، أو حتى نقطة رصد في أعالي جبال بامير.
طالبان والموقع الاستراتيجي
تتربع ولاية نورستان اليوم على جبال سليمان، وكان لافتاً اقتصار سيطرة طالبان في عهدها الأول على الجزء الشرقي منها بالتفاهم مع الزعماء المحليين، ولم تمتد سيطرتها إلى الجزأين الغربي والأوسط، حيث توجد مدينة بارون عاصمة الولاية.
ويعود سبب عدم بسط طالبان سيطرتها على الولاية إلى تحاشي تبديد جهدها في معركة قد تكون خاسرة بسبب الطبيعة الوعرة للمنطقة، وهو ما فعله السوفييت من قبل، فهم لم يجتاحوا الولاية عسكرياً، بل إن منظمة من مجاهدي نورستان أعلنتها دولة مستقلة (لم يعترف بها دولياً) أثناء الاجتياح السوفييتي، وحلت نفسها بعد سيطرة حكومة المجاهدين.
وفي الجولة الأخيرة لطالبان تأخر واليها في الحكومة السابقة عن تسليم إدارة ولايته حتى بعد سقوط العاصمة كابول، كما لم تتعجل الحركة استلامها رغم الأهمية الاستراتيجية للولاية المحاذية لباكستان، وتحيط بها ولايتا بدخشان وبنجشير من الشمال وكونر ولغمان والحدود الباكستانية من الاتجاهات الأخرى.
وعندما حان وقت الاستلام والتسليم بدا بين الوالي المغادر حافظ عبد القيوم وبين ممثلي طالبان كيمياء صامتة، فقد تخرَّج في المدارس الدينية التي هي محاضن طالبان، ولديه من العلم الشرعي ما يمنحه لباقة في الحديث مع قادتها، فتمت العملية في أجواء من الاحترام والتكريم، وأمر الوالي الجديد وحدة من مسلحي الحركة بمرافقة سلفه من بارون عاصمة الولاية إلى منزله في مديرية واما، ومن ثم إلى العاصمة كابول.
التنافس الجيوسياسي
كانت أفغانستان محور صراع التوسع الإمبراطوري على مدى قرنين بين روسيا القيصرية وبريطانيا العظمى وهو الصراع الذي أطلق عليه اللعبة الكبرى، والتي انتهت بترسيم الحدود الأفغانية الحالية نهاية القرن التاسع عشر لتتحول أفغانستان إلى منطقة عازلة بين الإمبراطوريتين المتنافستين.
وبتحريض من بريطانيا تمكن الأمير عبد الرحمن خان من ضم نورستان إلى السلطة المركزية في كابول لأول مرة عام 1896، وذلك للحيلولة دون أي اختراق تسجله روسيا العظمى عبر نورستان التي كانت تسمى كافرستان للوصول إلى المياه الدافئة بالاستيلاء على أجزاء من شبه القارة الهندية (باكستان).
وما أن حلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي محل بريطانيا العظمى وروسيا القيصرية بعد الحربين العالميتين حتى عادت اللعبة الكبرى من جديد، وأحبط الاتحاد السوفييتي تقدم الولايات المتحدة باتجاه أفغانستان في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وذلك عندما اكتشفت الاستخبارات السوفييتية نشر الولايات المتحدة صواريخ بعيدة المدى في قاعدة عسكرية في بيشاور الباكستانية، فرد السوفييت عليها بنشر صواريخ مماثلة في كوبا، وهو ما عرف بأزمة خليج الخنازير، والتي انتهت بسحب كل من القوتين العظميين صواريخها.
وبعد عشرين عاماً تقريباً من أزمة خليج الخنازير تدخّل السوفييت عسكرياً في أفغانستان مستندين إلى استراتيجية الحرب الاستباقية، ومعلومات قالوا إنها تؤكد أن الولايات المتحدة كانت تعد العدة للتدخل في أفغانستان، لكنهم خرجوا بعد ثماني سنوات مثخنين بالجراح.
لعبة كبرى ثالثة؟
ومنذ انسحاب القوات الأمريكية في آب/أغسطس الماضي والحديث يدور عن لعبة كبرى ثالثة حول أفغانستان، تكون الصين هذه المرة أحد محاورها، وبرز سؤال عن مدى تجرؤ قوة دولية على تكرار تجربة الأمريكيين والروس في نفس المكان ومع نفس القوم، وهو أمر لا يستطيع خبراء الصراعات الدولية تصوره، على الأقل في المنظور القريب.
أما حال القوى الدولية اليوم فهو أشبه بمفتولي عضلات يقفون على حافة ملعب مصارعة، ويتوعد كل منهم الآخر "إما لاعب أو مخرب"، فليس بإمكان أي منهم ترك الموقع الاستراتيجي والمصادر الطبيعية في أفغانستان لغريمه أو حتى لحليفه، ولم ينسوا بعد دروس التدخل العسكري الذي أنهك قوتين عظميين في جيل واحد.
من هنا يمكن فهم حاجة الولايات المتحدة وروسيا والصين إلى وضع قواعد لعبة جديدة للصراع حول أفغانستان، فكان اجتماع الترويكا إضافة إلى باكستان الدولة المستضيفة، في إسلام أباد والذي بعث بإشارات بإمكانية الاعتراف الدولي بحكومة طالبان.
لا شك أن طالبان أصبحت رقماً صعباً في اللعبة الدولية الجديدة، كما عادت القوى العظمى لتراجع حساباتها مع باكستان، وذلك بعد الإهمال والحصار الغربيين والعداء الروسي الذي عانت منه بعد انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان عام 1989، ولعل القوى الدولية أدركت خطأها بالاستهانة بقدرات باكستان الإقليمية رغم ضعفها الاقتصادي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.