تعتبر مدينة العرائش من المدن المغربية الساحلية الهامة التي تقع شمال المغرب عند مصب نهر لوكوس، ويبلغ عدد سكانها 125.008 نسمة (وفقاً لتعداد عام 2014)، وهي إلى جانب ذلك من أقدم المدن المغربية، وقد عرفت المدينة خلال تاريخها الضارب بالقدم أربع حقب تاريخية وهم الحقب فينيقية وقرطاجية ورومانية وإسلامية، وتعرضت مدينة العرائش خلال تاريخها الطويل لعدد لا حصر له من الحملات الاستعمارية.
فقد حاول البرتغاليون احتلالها عدة مرات: الأولى كانت عام 1489م ولكنهم فشلوا، ثم في عام (1504 -1508م) وتم صد هجماتهم، في عام 1610م عندما تم تسليم المدينة للإسبان مقابل مساعدتهم للشيخ المأمون وهو موضوع حلقتنا، وقد دام مقامهم بها 79 عاماً إلى أن حررها السلطان إسماعيل أحد ملوك الدولة العلوية سنة 1689 م.
معركة وادي المخازن
في عام 983 هـ/1576 بالقرب من مدينة فاس انتصر أبو مروان عبد الملك (الغازي) وشقيقه الأصغر أحمد المنصور بالله (الذهبي) على المتوكل على الله (المسلوخ) في معركة وقعت قرب مدينة فاس، ففر المتوكل على الله (المسلوخ) من المعركة فلاحقته قوات عبد الملك حتى وصل لمدينة طنجة، فاستنجد بملكي إسبانيا والبرتغال لنجدته فأجابه ملك البرتغال الشاب (سبستيان الأول)، مقابل أن يتنازل له عن جميع شواطئ الدولة المغربية فأجابه (المسلوخ) لمراده.
في يوم 24 يونيو/حزيران 1578م كان إبحار الملك البرتغالي سبستيان الأول من ميناء لشبونة باتجاه شمال المغرب بقوة عسكرية ضخمة؛ إذ إن خاله ملك إسبانيا وعده أن يمده بـ20 ألفاً من القوات الإسبانية، وأرسل إليه الإيطاليون نحو 3 آلاف، وبعث كذلك إليه البابا 4 آلاف مقاتل إلى جانب 12 ألف مقاتل برتغالي بالإضافة إلى ما بين 3 آلاف إلى 6 آلاف مقاتل مغربي، وما إن انتشر خبر الحملة البرتغالية في أنحاء المغرب حتى تداعت الأمة المغربية للجهاد ضد ملك البرتغال والخائن (المسلوخ).
في 4 أغسطس/آب عام 1578م وقعت معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة، أو كما يطلق عليها في المغرب معركة (الرابع غشت) التي تعتبر من أعظم وأشرس وأهم المعارك في تاريخ المغرب قاطبة أثناء حكم الأسرة السعدية، إذ حشد أبو مروان عبد الملك (الغازي) هو وأحمد المنصور بالله (الذهبي) الحشود المغربية والتي قدرت بـ40 ألف مقاتل، وما إن وقعت معركة وادي المخازن حتى تمكن السلطان المغربي أبو مروان عبد الملك (الغازي) بمعاونة القوات العثمانية في الجزائر من إلحاق هزيمة ساحقة وماحقة بالملك البرتغالي سبستيان الأول والمتوكل (المسلوخ) اللذين قتلا في المعركة.
السلطان أحمد المنصور بالله الذهبي (1578 – 1603م)
ما أن انقشع غبار المعركة حتى استشهد بطلها السلطان أبو مروان عبد الملك (الغازي) الذي آثر الاستمرار بالمعركة رغم مرضه وإجهاده، فبويع في ساحة معركة وادي المخازن أحد أبطالها وشقيق أبو مروان عبد الملك (الغازي) أحمد المنصور بالله (الذهبي) سلطاناً جديداً للمغرب، الذي يعتبر عهده أزهى عهود الدولة السعدية رخاءً وعمراناً وجاهاً وقوة ومنعة.
فقد شهدت الدولة السعدية في عهد أحمد المنصور بالله (الذهبي) اتساعاً ملحوظاً؛ إذ اتسعت رقعة دولته لتضم أجزاء واسعة وكبيرة من الصحراء الكبرى وبلاد السودان (غانا، مالي، السنغال وتشاد وما جاورها حالياً)، فأصبحت حدود الدولة تمتد من بلاد فزان (ليبيا حالياً) والدولة العثمانية في الشرق إلى نهر النيجر في الجنوب والمحيط الأطلسي في الغرب والبحر الأبيض المتوسط في الشمال، وحتى بلاد النوبة المتاخمة لمصر من جهة الجنوب الشرقي.
كما شهد عصره طفرة اقتصادية كان عمادها مزارع قصب السكر؛ إذ تطورت صناعة قصب السكر فأصبح السكر المغربي من أجود أنواع السكر في المعمورة وصار مرغوباً في الدول الإفريقية والدول الأوربية، وهذه الطفرة الاقتصادية في المجال الزراعي انعكست على مجالات أخرى كالصناعة والتجارة، فامتلأت خزائن الدولة السعدية بالذهب، فلُقب أحمد المنصور بالله بالذهبي نسبة لهذا الثراء، وشيد في عهده كذلك عدد كبير من المنشآت العمرانية سواء أكانت دينية أو علمية أو عسكرية في مختلف أنحاء المغرب، وكان أعظمها وأبهاها قصر البديع في مدينة مراكش.
ورغم الرخاء الذي تميز به المغرب في عهده فقد ظهرت بعض المنغصات، ومنها: ولده وولي عهده الشيخ (المأمون) فقد توترت العلاقات بين الأب وولده بسبب كثرة الشكايات التي ترددت عن فسقه وفجوره وسوء تصرفه، وحينما استنزف أحمد المنصور بالله (الذهبي) جميع الطرق لإصلاح حال ولده، عزم المنصور على تأديبه، فأعلن الشيخ (المأمون) التمرد على والده، إلا أن عصيانه لم يدم طويلاً إذ تم إلقاء القبض عليه عام 1602م وأودع السجن.
وقد استفتى المنصور الذهبي رجال دولته في أمر ولده الشيخ المأمون، فلم يجبه أحد إلا الباشا (عبد العزيز بن سعيد الوزكيتي) الذي أشار عليه بقتله لأنه حسب رأيه: (لَا ينجبر أمره وَلَا يُرْجَى صَلَاحه) إلا أن أحمد المنصور بالله (الذهبي) لم يفعل بنصيحته وآثر إبقاءه في السجن، وولى بدلاً منه ولده (مولاي زيدان) ولاية العهد في عرش الدولة السعدية من بعده.
الصراع على عرش السلطنة السعدية
في 23 أغسطس/آب عام 1603م طويت صفحة أحمد المنصور بالله (الذهبي) بوفاته عن عمر ناهز 53 بعد 26 عاماً قضاها سلطاناً للدولة السعدية في المغرب، وعلى إثر وفاة المنصور (الذهبي) دخلت الدولة السعدية التي تميزت في عهد أحمد المنصور بالله (الذهبي) برخاءٍ وعمارةٍ وجاهٍ وقوة ومنعة، في حالة من الانحطاط إثر صراع على السلطة بين أبناء أحمد المنصور بالله (الذهبي) الثلاثة وهم: محمد الشيخ الملقب (بالمأمون)، زيدان الناصر بن أحمد أو (مولاي زيدان)، أبو فارس عبد الله (الواثق بالله)، وقد أدى صراع الأشقاء الثلاثة على منصب سلطان المغرب الذي استمر سبع سنوات ونيفاً إلى دخول الدولة السعدية في مرحلة الانحطاط والتراجع والسقوط.
وعندما توفي أحمد المنصور بالله (الذهبي) سارع (مولاي زيدان) بالرجوع إلى مدينة فاس وأعلن نفسه سلطاناً على المغرب وبايعه أهل فاس، وبعث بمجموعة من قواته للقبض على شقيقه الشيخ (المأمون) المسجون بدينة مكناس، إلا أن محاولته باءت بالفشل؛ إذ تم نقل الشيخ المأمون مقيداً إلى مراكش عند شقيقه (الواثق بالله) الذي سبق وأعلن نفسه هو كذلك سلطاناً على المغرب وبايعه أهل مراكش!
وعندما أعد (الواثق بالله) جيشاً كبيراً بقيادة ولده عبد الملك لمحاربة شقيقه (مولاي زيدان) ولانتزاع مدينة فاس منه والقضاء على أحلامه في الاستفراد بعرش الدولة السعدية، أشار مستشارو (الواثق بالله) عليه بالإفراج عن (المأمون) لخبرته الطويلة في المجال العسكري، إلى جانب أن (مولاي زيدان) رجل خبير بالحرب وخدعها، وبناءً على ذلك أفرج (الواثق بالله) عن (المأمون) بعد أن أخذ عليه العهود والمواثيق على النصح والطاعة فوافقه، فأرسله على رأس قوة من 600 مقاتل إلى جانب جيش ولده عبد الملك، فالتقى الجمعان في معركة وادي أم الربيع التي انهزم بها (مولاي زيدان) ففر ليتحصن في مدينة فاس.
بعد انقشاع غبار معركة وادي الربيع حاول رجال الواثق بالله إلقاء القبض على المأمون إلا أنه تمكن من الإفلات منهم، وفي فترة قصيرة تمكن الشيخ المأمون من جمع القبائل المغربية إلى جانبه وتكوين جيش كبير، وتمكن من الاستيلاء على فاس وهزيمة مولاي زيدان الذي فر ناحية مدينة تلمسان، كما تمكن المأمون من إعداد قوة بـ8 آلاف مقاتل بقيادة ولده عبد الله، وهزم (الواثق بالله) واستولى على مدينة مراكش واقتحمها جنوده في عدة أيام، وبذلك أصبح (المأمون) سلطان الدولة السعدية (1603 – 1608م).
مأساة العرائش
إلا أن دوام الحال من المحال فقد عاد (مولاي زيدان) لمحاربة (المأمون) بعد أن قويت شوكته، فانتزع منه مراكش بعد هزيمة عبد الله ولد (المأمون) في أكثر من موقعة، وبعد انتصارات (مولاي زيدان) انضمت إليه أعداد كبيرة من أهل فاس ومراكش، فشعر (المأمون) بالخوف من أن ينقلب عليه عامة الناس في فاس بعد هزائمه المتكررة، فتوجه إلى مدينة العرائش التي تقع شمال المغرب عند مصب نهر لوكوس فاستولى على القصر الكبير وأقام به، ولحق به ولده عبد الله وانضم إليهما كذلك أخوه (الواثق بالله).
وأمام هذا الواقع الجديد الذي فرض على (المأمون) وتقارب القوتين العسكريتين، أرسل (مولاي زيدان) بقيادة (مصطفى باشا) إلى ناحية القصر الكبير للقبض على (المأمون)، ركب (المأمون) البحر حاملاً أمه الخيزران وحاشيته إلى إسبانيا مستنجداً بملكها (فيليب الثالث) لكي يساعده.
في البداية رفض الملك الإسباني فيليب الثالث تقديم أي معونة له، فراوده (المأمون) على أن يترك أمه الخيزران وأولاده وحاشيته رهائن عنده حتى يتم الأمر، وأغراه بأنه سوف يمده بالمال والرجال وكل ما تحتاجه الحملة الإسبانية، فشرط عليه الملك الإسباني فيليب الثالث مقابل ذلك تسليمه ميناء العرائش، فوافق (المأمون) على شرطه وكان ذلك عام 1609م.
في عام 1609م تحركت الحملة الإسبانية بأوامر الملك الإسباني فيليب الثالث نحو المغرب بدعم ومؤازرة من (المأمون)، وحينما علم أهل فاس بخبر الحملة فضلوا تسليم مدينتهم للمأمون خوفاً من بطشه وجوره وحتى لا تدمر مدينتهم فوق رؤوسهم، وما أن وصلها (المأمون) حتى خرج أعيانها وعلماؤها ورجالها لاستقباله.
وبعدما استقرت الأمور للمأمون في فاس حاول إقناع رجاله وقادة جيشه على الموافقة على تسليم مدينة العرائش للملك الإسباني (فيليب الثالث)، فلم يوافق أحد من قادته إلا واحداً وهو الذي يكنى بـ(الكرني)، فأولى له (المأمون) مهمة إخلاء مدينة العرائش من أهلها الذين قاوم بعضهم عملية الإخلاء، فما كان الكرني وجنوده إلا أن أخرجوهم بالقوة ومن استعصى عليهم تم قتله، وفي 4 رمضان 1019هـ/20 نوفمبر 1610م تم تسليم مدينة العرائش للإسبان الذين حولوها إلى ميناء وقاعدة حربية وأطلقوا عليها اسم (سان ميجيل دي أولترامار).
أثار تسليم مدينة العرائش للإسبان حفيظة وسخط أهل المغرب قاطبة الذين اعتبروا تسليم (المأمون) العرائش للإسبان بمثابة خيانة؛ إذ نادى الشريف أبو العباس أحمد بن إدريس العمراني بالجهاد والخروج لإغاثة المسلمين بالعرائش، على إثر ردود الفعل الساخطة لجأ (المأمون) لحيلة بهدف امتصاص حالة السخط المستشرية بين المغاربة.
فجمع المأمون علماء المغرب واستفتاهم بأنه: ( ترك أولاده وحشمه رهائن عند الملك الإسباني (فيليب الثالث)، ولا مفر من إعادتهم لحضن المغرب إلا بتسليم مدينة العرائش، فكان جواب العلماء بأن "فداء المسلمين لا سيما أولاد أمير المؤمنين من يد العدو الكافر بإعطاء بلد من بلاد الإسلام جائز"، ووقع عدد لا بأس به من العلماء على هذه الفتوى، أما عن أسباب توقيعهم ورضاهم بذلك فكان البعض منهم يسعى للتقرب من المأمون، أما البعض الاخر فوقعوا خوفاً من سخط وبطش المأمون، ومن الذين أفتوا تقرباً من المأمون الفقيه (محمد بن قاسم بن القاضي)، الذي انتهى به المطاف مقتولاً على يد العامة في المغرب الذين اتهموه بالموافقة على تمكين نصارى من ثغر من ثغور المسلمين أي وهو العرائش.
ففتوى علماء المغرب بالموافقة على تسليم مدينة العرائش لم تقنع المغاربة، بل زادت من اشتعال غضبهم ونقمتهم على المأمون وسياسته، فإضافة لأزمة العرائش قد اجتمع عدة أمور زادت من نقمة المغاربة على المأمون وسياسته للمغرب، منها، الاستعانة بالإسبان، وتخاذله عن رد غاراتهم على سواحل المغرب، وظلمه وجوره وبطشه وفجوره.
كلها أمور ساهمت في تشكيل جبهة عريضة معارضة من علماء وأعيان وعامة المغرب بزعامة المقدم محمد الصغير بو الليف والمقدم أحمد النقسيس، بهدف تخليص المغرب من المأمون، فتمكنوا أولاً من قتل أحد رجالاته (حمو بودبيرة)، من ثم وثبوا على الشيخ المأمون وقتلوه يوم الثلاثاء 26 رجب 1022هـ/ عام 1613م، وقد تركت جثته مطروحة الأرض مكشوفَ العورة 5 أيام في حالة يرثى لها.
تحرير العرائش
ولم تنتهِ مأساة العرائش بمقتل المأمون والتمثيل بجثته؛ إذ استمر الاحتلال الإسباني للعرائش قرابة 79 عاماً، وأثناء هذه الفترة قام الإسبان بتحصين مدينة العرائش وتحصين حصونها (حصن الفتح وحصن النصر)، وإضافة بعض التحصينات الأخرى التي تخدم مصالحهم العسكرية والاستعمارية في الغرب، ومع سطوع نجم دولة العلويين (التي تحكم المغرب حالياً) وانهيار الدولة السعدية تبسم القدر من جديد للعرائش؛ إذ تمكن سلطان المغرب (مولاي إسماعيل) (1672-1727) من تحريرها عام1101ه /1689م، بعد حصار دام مدة 3 شهور ونصف بقيادة القائد المغربي (أبي العباس أحمد بن حدو البطوني).
وكان عدد أفراد الحامية الإسبانية في مدينة العرائش وقت الحصار ما يقارب 3 آلاف مقاتل، وبعد تحريرها وأسر ألفين من الإسبان فسيقوا إلى مدينة مكناس، إذ تم استخدامهم في عمليات بناء القصور وترميمها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.