عندما باع “لبنان” بدلته فخسر مرتين

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/11 الساعة 08:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/11 الساعة 08:30 بتوقيت غرينتش

في لبنان، يُطلق على اسم عناصر الجيش والشرطة (الدرك أو الأمن العام) كلمة "وطن"، وعندما تمر سيارة على نقطة تفتيش، عادةً ما يتم استخدام تعبير "مراحب يا وطن".

فتخيل شعورك عندما يستجدي "الوطن" بهيبته حفنة من الدولارات.

في نهاية زيارة متعبة ومرهقة لما يشبه الوطن صيف 2021، تسمّرت في مكاني بصف المغادرين من مطار بيروت الدولي، ممسكة بعربة الحقائب أنا وأولادي.

وكما اعتاد الأولاد، فاحترام الدور من أبسط السلوكيات ولا علاقة حتى للأخلاق وحسن التربية بها، ففي كندا حيث نشأوا، تعلموا وعلّمونا معهم أن صاحب الحق سيحصل عليه ولكن فقط عندما يحين دوره.

متعبة ومرهقة للحاق بطائرتي التي تنطلق في ساعات الفجر الأولى، بعد إجازة معدومة النوم بسبب أزمة المازوت "مسروقاً كان أو مهرباً"، وإذ بعربات مليئة بالحقائب "تحتل" مكاني في الصف؛ منهم من يتكلم باللكنة اللبنانية ومنهم من يتكلم بلغات أجنبية ولكنات بتنا نميز مصدرها.

امتعض الأولاد فهدّأت من روعهم، واتفقت مع مسافرة أمامي على أن لا ندع أي عربة تمر قبلنا.

على مقربة مني، وقف حمّال أمتعة يرتدي بدلة زرقاء لا حاجة لي لخدماته، ولكنه انتقاني وليته لم ينتقني، ليعرض شيئاً لم يكن ليخطر ببالي قط، ولأول مرة يحصل معي -رغم كل رحلاتي من وإلى لبنان– على مدى غربةٍ عمرها 15 عاماً.

قال صاحبنا وهو ممسك بيديه نحو الأسفل كمن يطلب إذناً: "مدام، إذا بدك تمرقي، هذا الضابط بيقدر يساعدك".

نظرت إلى حيث أشار بعينيه لا بإصبعه صراحةً، وجدت ضابطاً من أمن عام المطار، أي بمعنى آخر، حارس الدولة وأحد حماة مرفقها الجوي الوحيد.

كان الضابط يقف ونصف عينه معنا، علمت أن هناك ترتيباً ما، قد تتخذ الصفقة بينهما مسميات أخرى، اسمها إكرامية على سبيل المثال، لكنها بكل بساطةٍ رشوة إذا أردنا أن نسمي الأمور بمسمياتها.

انتابني فضول كبير لأعرف سعر مثل هذه الـ"إكرامية"، فقررت أن "أعوم على مياهه".

سألت صاحبنا في البدلة الزرقاء: "كيف يستطيع الضابط مساعدتي والصف طويل أمامي وإلى أين سيوصلني؟"، فقال: "يجعلك في بداية الصف عند موظفة شحن الحقائب فلا يتعب أولادك الناعسون"، "بس بدك تطّلعي فينا شوي" أي "يجب أن تدفعي لنا مالاً".

سألت: "قديه يعني؟"

قال: "مدام بيني وبينه حوالي 100 دولار يعني".

كان الشاب الفطين استدرك من لكنة أولادي الإنجليزية أننا نعيش في أمريكا أو كندا، وعملتنا طبعاً "بالدولارات الفرش"، وهو المصطلح الذي يعني دولارات طازجة غير تلك التي دخلت في جيوب المصارف اللبنانية العميقة بلا عودة، تحت قيادة حامي حمى العملة اللبنانية: مصرف لبنان المركزي العتيد.

اعتذرت منه، وتلاشت فجأةً هيبة البدلة التي يرتديها الضابط المستجدي، في بلد انهارت عملته وأصبحت ليرته أضحوكة، بسبب فساد إداري من أعلى مستويات الدولة وصولاً لصاحبنا الضابط الذي بات راتبه لا يتخطى 15 دولاراً.

عندما صعدت إلى الطائرة، كانت صورة تلك الضابط في ذهني؛ كيف لموظف في جهاز أمني كان حتى فترة ما قبل "محاولة الثورة" يعتبر عناصره أنهم مواطنون أفضل من سائر اللبنانيين، وأن منطق "خدمة الشعب" مجرد فلسفة شاعرية رومانسية، فأصحاب هذه البدلات المموهة "أعلى شأناً" وقادرون على "إخفاء من يريدون خلف الشمس" باتصال واحد.

ما علينا، جلست بجانبي سيدة تسافر وحدها، غسلت دموعها خديها فأمددتها بمنديل وقلت لها: سنعود لا تقلقي، لكل أزمة نهاية مهما طالت.

وعندما عرفت بعد حوار قصير بيننا، أن وجهتنا النهائية واحدة، سارعت للإفصاح عن رأيها الصريح بأن إجراءات التنظيم- أو بالأحرى الفوضى- في المطار ما عادت تُحتمل، ثم قالت: "ولأول مرة في حياتي أفعل ما فعلت".

بحشريتي المعتادة طبعاً سألتها: وماذا فعلت أو أجبروك على أن تفعلي؟ فهذه الجملة إشارة إذاً مسبقة لي كي أسألها. 

قالت: "دفعت مصاري للضابط الذي كان يقف عند مكاتب الطيران عشان يمرقني، لأني تعبت من الوقوف". 

فقلت لها: وكم دفعت؟ قالت: 10 دولارات.

عرفت في تلك اللحظة أن سعر "الوطن" بات رخيصاً جداً، وحتى عندما قرر أن يبيع ذمته، خسر مرتين!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلقيس دارغوث
محررة في قسم التحرير غير الإخباري في عربي بوست.
حاصلة على شهادة بكالوريوس في الإعلام المرئي والمسموع من الجامعة اللبنانية. عملت في عدة مؤسسات إعلامية منها إيلاف ومجلة أرابين بزنيس، ثم نائبة مدير تحرير موقع الإمارات اليوم ومحررة وكاتبة في موقع mbc وإرم نيوز، وهاف بوست عربي. ساهمت في إطلاق عدة مواقع إلكترونية، ومهتمة بشؤون المرأة والعلوم والتاريخ والسياسة وكل ما يتعلق باكتشافات الفضاء. عاشقة للقهوة والسكوت البليغ والروايات التاريخية. شعاري في الحياة: التعليم سلاح المرأة، والمعرفة قوة، والقوة مواقف وليست أقوال.. أو شعارات.
تحميل المزيد