الكل يتعب إلا الأمهات! يوميات طبيب في قسم طوارئ الأطفال

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/11 الساعة 10:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/22 الساعة 14:00 بتوقيت غرينتش
غرفة مستشفى/ Istock

كأنني عبرتُ ثقباً زمنياً، أو كأن أحداً طوى مكاناً هادئاً تُسمع فيه رنّة الإبرة، وأبدله بآخر صاخب متوتر، كأنه استوى على شريط قطار "يزعق" بشدّة، لحظة واحدة كانت كفيلة بحدوث كل هذا الصخب في غرفة الطوارئ الهادئة تماماً بعد ليلةٍ طويلة حافلة.

الأم تحمل طفلها ذا الأربعين يوماً الذي تحوّل لونه بسرعة خاطفة إلى اللون الأزرق القاتم، وتجري به في كل ركن وتبكي، تُدرك أخته الصغرى التي لم تُجاوز العاشرة من العمر خطورة الموقف، تتعلَّق بي وتسألني من بين دموعها: "هيبقى كويس؟"

لا أَملك إجابة بعد، أراقب الطبيبة المسؤولة تفتح الفم الصغير عن آخره، وتبحث عن مدخل لأنبوب التنفس، الأَمر صعب جداً، التوتر يرتفع، اللون الأزرق القاتم يزداد، وصوت بكاء الأم وبنتها يصمُّ الآذان، أطلب منها بهدوء أن تنتظر هي وابنتها خارج الغرفة، الممرضة تُنعش القلب بإصبعيها، الطبيبة تجد بعد عناءٍ طويلٍ مدخلاً لأنبوب التنفس، وأتولّى أنا تركيب حقيبة التنفس (الأمبو باج) والعمل عليها.

ثلاث ساعات ربما، أتبادل أنا وزملائي (أمبجة) الطفل الذي عاد له لونه الأحمر، وأُمّه واقفة بالباب، عيناها البارزتان من النقاب الأسود معلّقتان بطفلها لا تطرفان، كأن أحداً أخبرها أنها لو غفتْ أو لو أنها انشغلت عنه لبضع ثوانٍ أو لو أنها أراحت عينيها من البكاء قليلاً فإن رضيعها سيموت!

تعود الطفلة وآثار الدموع في محجريها وتسألني بصوتٍ دامع: "هيبقى كويس؟" أَملك الإجابة هذه المرة، أريد أن أُريح بها الطفلة المسكينة، لكن شيئاً هنا ليس أكيداً تماماً طوال الوقت، ولا أريد أن أمنحها الأمل الذي لا أملكه، لكنني أقاوم تلك النزعة، وأُخبرها أنه "سيكون كويس"، ويمكنها مراقبته عن قربٍ لو أرادت ذلك.

أمهات أخريات

على السرير المجاور تجلس أُمٌّ من أول اليوم تُثبِّت جهاز التنفس الصناعي على فم طفلها الرضيع، أتعب أنا وزملائي ونتبادل الأدوار، وهي لأكثر من سبع ساعات متواصلة وربما لآخر اليوم، تمدُّ رضيعها بالأوكسجين، ولا تملّ، لا تتعب يدها، لا تطلب من أحدٍ أن يُريحها ولو لثوانٍ معدودة، تشرب كوباً من الماء أو تستلقي على الأرض.

الأُم الثالثة، في أول العمر، يبدو أنها "بنت ناس" وهذا طفلها الأول، ليس الترتيب مُهماً ولا مطلوباً في أوراق الاهتمام والانشغال الكامل التي تملؤها كل أُمٍ في هذا المكان بدموع العين وماء القلب، الولد الأزرق كان الابن السادس لتلك الأُم الأولى، وهذه الأخرى تحمل ولدها الأول على ما يبدو.

تروح وتجيء من أول اليوم، تجلس بصبرٍ في زاوية الغرفة حتى يكتمل انتقال الدم لطفلها، تحمله بصبرٍ أكبر وتخرج، تعود لتسأل الطبيبة عن شيء، تطلب الطبيبة نوعاً من التحاليل، تسارع لإتمامها، وهي تحمل طفلها، تغيب قليلاً وتظهر، تسأل عن التحاليل، وما إذا كان هنالك ما يمكن فعله لكي تتم الأُمور بسرعة أكبر، أدلها على المكان، تذهب وتعود بِخُفّي حنينٍ وطفلها بين يديها.

يطلبون تحليلاً آخر، من مكان آخر، أستطيع أن أمرِّره لمعمل تحاليل المستشفى رأفةً بها وبطفلها الملتصق بها، تشكرني، أهزّ رأسي وأتمنى لو كان بيدي أكثر من ذلك فأفعل.

تجلس الأمّ الصغيرة لتستريح على الكرسي المجاور لي بعدما هدّ التعبُ كلَيْنا، تقول بأسى وضحكِ العاجز: "المعاملة هنا صعبة أوي". ولا تنتظر رداً مني، تنظر لطفلها وتقوم لتكمل مشاوير التحاليل والاستشارة والأدوية، وكأنها تواسي نفسها بابنها، وتواسي ابنها بسعيها.

الكل هنا يشعر بالإعياء، إلا الأمّهات، خلايا نحلٍ لا تهدأ، لا يعلو صوتهن إلا بالبكاء، ولا يحملهنّ على مذلة سؤال الطبيب الذي لا يعيرهنّ انتباهاً أغلب الوقت إلا تلك الحاجة التي تتحرك في نفوس الآباء والأمهات تجاه أبنائهم على الدوام، فيحملون أثقالهم وأثقال أطفالهم المرضى على صدورهم، ويمشون، ويجرون، ويقفزون، ويموتون من أجلهم.. لو تطلَّب الأمر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أيمن ربيع
كاتب مصري
من مواليد ديسمبر 1999، طالب بكلية الطب جامعة القاهرة، وصاحب كتاب «زحام الكلام» المنشور في معرض القاهرة للكتاب 2020.
تحميل المزيد