إن ثورة ديسمبر (كانون الأول) التي أطاحت بنظام دام لثلاثة عقود من الزمان، عُلقت عليها الآمال كثيراً لبناء سودان جديد، بمفاهيم وقيم ديمقراطية تختلف عن تلك التجارب السابقة -الديمقراطية الأولى والثانية- وبالتالي كانت تلك الآمال تتعلق بإرساء قيم الديمقراطية القائمة على السلام والحرية والعدالة، وهذا ما اتَّضح جلياً في شعارات وهتافات الثورة التي قادها الشباب باختلاف ثقافاتهم وعاداتهم، بل حتى اختلاف الأقاليم التي ينتمون إليها، حالمين بسودان يسع الجميع، ومن خلال تلك الثورة تغيّرت المفاهيم السياسية والفكرية لدى الشباب، سيما تلك المفاهيم التي تتعلق بالحكم، بحكم أن السودان مرَّ بتجربتين سابقتين، ولكن لم تُغير تلك التجارب من العقليّات السياسية للنخب الحاكمة، إذاً يتمثل السؤال الرئيس في الاجابة عن كيف يُحكم السودان؟ وما هي تحديات الانتقال إلى نظام ديمقراطي؟
قبل الخوض في تحديات الانتقال لا بد من توضيح الدور الذي لعبه الإعلام، خاصة دور الصحافة، بالرغم من تقييد الحريات الذي واجهه الصحفي السوداني، فإن ذلك لم يحدّ أو يمنعه من إرسال رسالته، ليس فقط بصفته مرآةَ المجتمع، بل بصفته لسانَ حال أبناء المجتمع، الذي يدافع عن حقوقهم ويتحدث نيابة عنهم، بحكم أنه جزء لا يتجزأ من مجتمعه، لأن دوره غير مقصور فقط على نقل وكتابة الأخبار في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، بل يتعداه إلى إيصال المعاناة التي يعيشها المواطن السوداني إلى متخذي القرار. هذه الثورة كذلك حققت انتصاراً كبيراً بكسر حاجز الخوف وسط الصحفيين والمواطنين، نتيجة سياسة الكبت وتكميم الأفواه التي مورست عليهم، سيما مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي ساعدت بشكل إيجابي في الحراك الثوري والتحول السياسي في البلاد.
متاريس اجتماعية
لقد أوضح مؤتمر "الصحافة العربية: الحاضر والمستقبل في ظل الربيع العربي"، المنعقد بالقاهرة يومي الثاني عشر والثالث عشر من شهر يونيو/حزيران 2013، أن مؤسسات النظام القديم ومؤيديه دائماً ما تُمثل التحدي الذي يواجه عملية الانتقال، ويقف حجر عثرة أمام تحقيق التحول الديمقراطي وسيادة حكم القانون لمحاسبة المفسدين وإرساء العدالة الاجتماعية، من خلال تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة في الوطن العربي، تضمن العيش الكريم للمواطن، والمحافظة على حقوقه في المشاركة في عملية اتخاذ القرار. وهذا ما نلاحظه بجلاء في بلدنا الحبيب من مقاومة ووضع المتاريس أمام الانتقال الديمقراطي، سواء أكانت هذه المتاريس سياسية أم اقتصادية، أو محاولة ضرب النسيج الاجتماعي من خلال إحداث شرخ قبلي من شأنه أن يُفضي إلى حرب أهلية دامية أو حرب بالوكالة، وذلك بتدخل جهات خارجية كما حدث في دول أخرى.
تخبط النخب
إن التحدي الآخر يتمثل في الصراع السياسي في الساحة السياسية بين النخب التي أوضحت بجلاء مدى التخبط السياسي الذي نعيشه ونمارسه، من خلال معاداة كل حزب للآخر، أو كل جماعة سياسية للأخرى، وعدم الاعتراف بها أو قبولها، عن طريق محاولة إضعاف المنافس السياسي الآخر، حتى يتسنى لهم الاستئثار بالساحة السياسية دون غيرهم من منافسيهم، وهذا إن دلّ فإنما يدل على عدم الحِنكة السياسية لدى النُّخب الحاكمة، إذ إن معظم المجتمعات المتقدمة درجت على أن يكون هناك تعايش وتعاضُد فيما بينها، وتساند بعضها بعضاً (نعم هناك انتقاد كل للآخر ولكن في مصلحة الشعب، وليس في مصلحة فرد بعينه)، لأن الهدف الرئيس من قيام الثورة هو إرساء مفاهيم سياسية حديثة، ترقى إلى التعددية وقبول الآخر، من أجل المشاركة السياسية في الحكم من أوسع أبوابه، ومن ثم ضمان الأمن والسلم في كافة أرجاء البلاد، ولذلك نقول إنه لا بد من المصالحة السياسية بين كافة الأحزاب السياسية والحركات المسلحة دون استثناء، لأنها تعتبر المخرج الوحيد للصراع المحتدم في الساحة السياسية.
بيئة الديمقراطية
كذلك فإن مسألة الديمقراطية في حاجة إلى بيئة تستوعب المفاهيم التي تتعلق بالديمقراطية مثل العدالة الاجتماعية وسيادة حكم القانون، من خلال الدستور الذي يتوافق عليه الشعب، وكذلك من خلال رفع الوعي الديمقراطي وسط المواطنين، عن طريق المؤسسات الاجتماعية المختلفة (المدرسة والبيت والشارع)؛ لأن عملية الانتقال إلى الديمقراطية ما هي إلا تحول من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، وهذا يتطلّب بُعداً ثقافياً يتمثل في تعميق مبدأ المواطنة والمساواة، وبُعداً آخر مؤسسياً، وذلك بتطبيق هذا المفهوم على مستوى المؤسسات داخل الدولة؛ لذلك نتساءل: هل نحن السودانيين نمارس تلك المفاهيم في البيت والمدرسة والشارع، وكذلك على مستوى الأحزاب السياسية؟ إذا كانت الإجابة بنعم فهنيئاً لنا بمجتمع واعٍ يضمن الانتقال السَّلس للديمقراطية وإرساء قِيمها بين أرجاء هذا الوطن، وإذا كانت العكس ففاقد الشيء لا يعطيه كما يقول المثل الإنجليزي "لا يُستخرج الدم من الصخر"، ومن الأفضل لنا أن نخوض في حديث غيره؛ لأن غياب الثقافة الديمقراطية في مجتمع ما يعتبر عائقاً كبيراً في وجه تبنّي الديمقراطية.
خلاصة القول
نحن بحاجة إلى تهيئة العقل السياسي السوداني، من خلال رفع الوعي السياسي والقانوني والاقتصادي في كافة مؤسساتنا الاجتماعية، سواء في المدرسة أو في عائلاتنا أو وسط الأحزاب السياسية؛ حتى يتسنَّى لنا معاضدة ومساندة بعضنا البعض للخروج بالسودان من هذا الوضع الذي يُجابَه بتحديات وأجندة داخلية وخارجية، هذا فضلاً عن الأطماع الخارجية التي تتعدى على أراضينا، وما يحدث الآن في المناطق الحدودية خير دليل، بسبب انكفائنا على مشاكلنا الداخلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.