يبدو أن أزمة لبنان مع المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربي معلّقة على حلّ مفقود، والأخبار التي تتوالى حولها تُنذر بتصاعد ارتداداتها، بما لا قدرة للبنانيين على تحمّله، في وقت بلغ فيه المشهد الداخلي ذروة التخبّط والإرباك والانقسام الأفقي والعمودي، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وحتى قضائياً، حيث انسداد الأفق الكامل، ويتعمّق المأزق أكثر، وتنعدم فيه أيّ فرصة ولو ضئيلة للحل والإصلاح، ما يجعل مصير بلد وشعبه مفتوحاً على سيناريوهات سوداء، تدفعه إلى هاوية كارثية لا قيامة منها بحد أدنى من الخسائر المتوقعة.
ووزير الإعلام جورج قرداحي، الذي سبّب هذه الأزمة المستفحلة لا يزال على موقفه برفض الاستقالة من منصبه، فيما المسألة شديدة التعقيد، لذا فإن تيار المردة ومِن خلفه "حزب الله" لن يقبلا بالتضحية بوزير الإعلام، ولن يُلزماه بأيّ خطوة يتخذها إلا إذا بادر هو من تلقاء نفسه إلى الاستقالة، لأن المسألة أبعد من تصريحاته، وهذا ما يؤكده المسؤولون السعوديون، وكما أكده بالأمس موفد الجامعة العربية حسام زكي بقوله صراحةً إن المسألة أكبر من تصريحات قرداحي.
وعمّا تردد عن أن زكي أثار مسألة عقد جلسة لمجلس الوزراء يجري التصويت فيها على إقالة قرداحي، على أن يصوّت وزراء الثنائي الشيعي وتيار المردة ضد هذا الإجراء، يقول المتابعون إن قضية إقالة أو استقالة الوزير قرداحي أصعب بكثير مما يعتقد البعض.
فيما تقول مصادر إن زكي تواصل مع المعاون السياسي لأمين عام حزب الله، الحاج حسين خليل، وطلب منه إقالة وزير الإعلام جورج قرداحي كمدخل للحل مع السعودية. كما طرحَ أن يصوّت الوزراء المحسوبون على الثنائي الشيعي ضد إقالة قرداحي، كما عرض زكي أن يعود الوزراء المقربون من الثنائي إلى اجتماعات مجلس الوزراء، لكن الحزب إياه ردّ برفض طرح زكي، لأن مقاطعة الحكومة بالمبدأ مرتبطة بقضية المحقق العدلي في انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار.
الصوت في بيروت والصدى في مأرب
بالتوازي تعود لعبة التفاوض بالدم والنار إلى الواجهة الإقليمية، كإحدى القواعد الإيرانية الأصيلة في الأداء العام السياسي والأمني، وهي السبيل الوحيد الذي تنتهجه جمهورية ولاية الفقيه لتثبيت قوتها وقدرتها على فرض المعادلات والتوازنات، وذلك قبيل أيام قليلة من العودة إلى مفاوضات الاتفاق النووي في فيينا.
وعقب الانهيار المفاجئ في المفاوضات مع السعودية والأزمة المفتوحة مع لبنان، وسحب السفراء ووقف الاستيراد، لجأت إيران إلى استخدام الأوراق المختلفة في ساحات متعددة من التصعيد في مأرب، إلى التعنت السياسي في لبنان، مروراً بتصعيد أمني وعسكري مترافق مع تظاهرات مدفوعة في العراق. هذا المسار التصاعدي سيستمر من الآن حتى موعد انعقاد المفاوضات، وقد يستمر على إيقاع جولات التفاوض.
ويمكن النظر إلى محاولة الاغتيال الفاشلة للكاظمي على أنّها تشكّل محطة لها دلالاتها، وأُريدَ لها أن تكون مأساوية لو نجحت، للتعبير عن حدّة الخلافات بين الرياض وطهران، نتيجة أحداث وُصفت بأنّها طارئة، جمّدت مساعي إحياء العلاقات بينهما، وألغت الجلسة الخامسة التي كانت متوقعة في النصف الثاني من الشهر الماضي، بعدما انتهت الجلسة الرابعة والأخيرة في 20 سبتمبر/أيلول الماضي، إلى خلاف كبير تسبب في الحشد الجاري إيرانياً على أبواب مأرب.
إيران وأذرعها
ووفقاً للزميل منير الربيع، فإنه لم يعد بالإمكان فصل لبنان عن سياق التطورات الخارجية، بحيث ستسعى إيران إلى تحسين شروطها مهما كلفت الأثمان، فيما لبنانياً يتم العمل على أكثر من ملف، من الضغط على القاضي طارق البيطار، والتشدد القضائي في ملفي خلدة والطيونة، الذي سينذر بالمزيد من التوترات، إلى تعطيل الحكومة، والذي يتجلى أكثر في الأزمة الدبلوماسية مع دول الخليج، في ظل عدم استعداد الحزب للتراجع أو تقديم التنازل، وهذه الوقائع تُنذر بالمزيد من التصعيد في لبنان، وثمة من يعتبر أن حادثة الطيونة كانت مقدمة الأحداث في لبنان، ما يشير إلى الكثير من التخوف على الوضع السياسي والأمني في المرحلة المقبلة.
وعليه، سيكون العراق حلبةً جديدةً للمزيد من الأحداث السياسية الدامية، وعوامل الصراع فيه أكبر من أي مكان آخر، خصوصاً أنه يأخذ طابعاً شيعياً- شيعياً. الأمر يبدو مختلفاً جداً في لبنان، وفي الموازاة لا رؤية سياسية واضحة في لبنان، ولا في المنطقة، لإطلاق ديناميكية سياسية قادرة على استنهاض الموقف السياسي والشعبي في مواجهة إيران وحلفائها، وتحديداً منذ إدارة حزب الله لعملية الإجهاض التي حدثت للثورتين اللبنانية والعراقية، ولبنان الذي يمر بأسوأ أزماته الدبلوماسية مع الدول العربية ليس على قائمة الدول المهتمة بمعالجة تلك الأزمة، سوى محاولة الجامعة العربية عبر حسام زكي، والمبادرة المجهولة حتى اللحظة لدولة قطر، والتي يتحدث عنها الرئيس نجيب ميقاتي ومحيطه السياسي.
وأقصى ما يمكن التفكير فيه هو عقد جلسة لمجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين. وقد تصدر توصية غير مؤكدة بعد، بعقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب، فيما السعوديون يؤكدون أنهم غير معنيين بذلك، لأن المطلوب من لبنان أبلغ للمعنيين عبر الوسطاء، وهو اتخاذ موقف عملي يلتزم بالقرارات العربية وبالقرارات الدولية.
وعليه، فالأزمة متواصلة إلى ما بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لتبني الدول على الشيء مقتضاه وفق أحجام القوى وتأثيرها، وخاصة أن المراقبين يتحدثون عن أن السعودية أرادت القول إنها خرجت من لبنان لتعود إليه أصلب مما كانت، ولإرسال رسالة للقوى السياسية أنها حددت سقفها، ومن أراد المواجهة فالعنوان معروف، وهذا ما قد يؤدي إلى مزيد من تصاعد الخطاب السياسي المواجه لحزب الله، وقد بدأه أمس رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ملاقياً صديقه السابق سمير جعجع.
وحين يقول مصطفى الكاظمي إنّه يعرف تماماً هوية الذين حاولوا اغتياله، فمن الواضح أنّه يقصد إيران، رغم عدم ظهور إشارات علنية تؤكّد ذلك حتى الآن، لكن خصوم طهران في العراق يجزمون أنّها هي المسؤولة، ويتوقعون المزيد واحتمال ذهاب العراق إلى مزيد من العنف والفوضى.
مستقبل الانتخابات اللبنانية
هذه الأجواء المتصاعدة تعني في لبنان أنّ انتخابات الربيع ستكون بين خيارين: إما أن تُحسم النتائج لمصلحة حلفاء إيران، وإما أن تؤجَّل إلى مواعيد غير معروفة. وهذا يرجّح بقاء الحكومة الحالية، إلّا إذا فرضت الظروف على ميقاتي أن يدخل في مواجهة قاسية مع "حزب الله" وحلفائه، على خلفية "أزمة تصريحات قرداحي".
وعندئذٍ ستكون قائمةً كل المبرِّرات لتأجيل الانتخابات الرئاسية أيضاً، حيث سيستفيد من ذلك فريق الرئيس ميشال عون، الحريص على البقاء في القصر ما دام لم يتفق الأطراف على خلفه، وهذا المسار يهندسه الوزير سليم جريصاتي، مدفوعاً من النائب جبران باسيل، الحالم بخلافة عون.
وعليه، وبعد الدرس العراقي القاسي لطهران في الانتخابات العراقية، ستُراجع إيران حساباتها في لبنان بدقَّة، ولن تغامر بإجراء الانتخابات إذا لم تضمن نتائجها. وسيكون عليها أولاً أن تقاوم الضغوط الدولية والعربية التي تريد الانتخابات لتحقيق التغيير، أي رفع النفوذ الإيراني عن القرار السياسي اللبناني، وهذا أحد أسباب إصرار واشنطن على بقاء الحكومة وعدم استقالة ميقاتي، ووقف الاندفاعة السعودية بمعاقبة لبنان، بغية حصول الانتخابات التي تنتظرها واشنطن كإحدى أوراق الضغط على حزب الله والإيرانيين خلال التفاوض.
والأربعة أشهر الباقية للاستحقاق المنتظر تعد فترة قصيرة جداً إذا قيست بحجم المآسي التي تفرض منطقياً عدم إجرائها في موعدها المحدد، أضف أن هناك الصراع القائم داخل المنظومة الحاكمة نفسها، حول شكل القانون الانتخابي النسبي ذي الصوت التفضيلي الواحد، وربما يكون بعضه مفتعلاً لإبقاء ذريعة تأجيل الانتخابات حاضرة "غب الطلب". فضلاً عن الانهيار المالي والواقع الاجتماعي الذي بلغ حدوداً لا تسمح للدولة وأجهزتها بإدارة العملية الانتخابية لوجستياً، ولا للناخبين بالتحرّك يوم الاقتراع.
في النهاية، ما يمكن البناء عليه عقب كل التحولات الجارية هو أن مساراً عربياً يعيد تشكيل نفسه من الصفر، والاحتدام الجاري من السودان إلى بيروت هو في إطار التدافع السياسي المنتظر، والذي تصنعه الشعوب، وتمانعه النظم السياسية المتشبثة بكل مكتسب حققته، وأن هناك تلازماً بكل المسارات اللبنانية والعراقية والسورية تماماً، كما هو تلازم المغرب والجزائر ومصر والسودان.. دماء وفوضى وانهيارات تواجه أحلام تغيير وشبه ثورات وانتفاضات تسعى لالتقاط أنفاسها تحت ركام اليأس!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.