حين سألني صديق عن اسم أكثر فيلم أثر فيّ، أسرني الصمت مطولاً، حاولت بيأس إيجاده بين سراديب عقلي، وفي تلك اللحظة حين ظننت أنني لن أعثر عليه أبداً، ظهر أمامي بين الظلمات، كيراعة هي مصدر الضوء الوحيد، وهكذا بعد فترة ليست بالقليلة من الصمت أخبرته بالاسم بلا تردد وقلت: "هو فيلم The Seventh Seal لإنجمار بيرجمان".
وهنا يأتي سؤال آخر، لماذا هذا الفيلم؟
ولكي أجيب عن هذا السؤال أيضاً يجب أن أعطيك لمحتين عن الفارس والموت من ثنايا الفن السابع الخاص ببيرجمان.
عن الفيلم
في البداية قدم لنا المخرج السويدي إنجمار بيرجمان الفيلم عام 1957 والذي بُني بدوره على مسرحية كتبها بيرجمان بنفسه باسم "اللوحة الخشبية"، ويقص علينا الفيلم الذي ينتمي لتصنيف الفانتازيا التاريخية قصة فارس صليبي يائس، قرر أن يعود إلى وطنه بعد فشل حملته العسكرية في الشرق، وبمجرد أن تخطو قدماه أرض الوطن يفاجئه الموت بالظهور أمامه كي يقبض روحه، لكن الفارس اليائس يقرر أن يلعب لعبة شطرنج مع الموت أثناء رحلة عودته، محاولاً تغيير القدر، لكن رحلته تحمل له الكثير من التساؤلات.
عن الفارس
في فيلم The Seventh Seal يعود الفارس أنطونيوس بلوك وحارسه من حملتهما الصليبية الفاشلة إلى مدينتهم، فيجدان هناك الموت في انتظارهما، ولا أقصد هنا شخص الموت الذي قرر مبارزة الفارس في لعبة شطرنج، بل أقصد الموت الأسود، أو الطاعون وقد ضرب وطنهما، يحصد ما يشاء من الأحياء، ويتركهم في النهاية جثثاً متعفنة في كل مكان.
في ذلك الوطن يجد الفارس نفسه متسائلاً عن صمت الرب، ألم يذهب بنفسه إلى الشرق كي ينصره بسيفه وماله وحياته، ألم يدعُه طوال عمره، إذاً لماذا على الفارس أن يعاني بين رفات وطنه المريض؟، لماذا ينادي الرب ولا يجد الإجابة؟.
وبين تلك التساؤلات نجد معاناة الفارس، وكيف جعلته الحرب ناقماً على الإله الصامت، يحاول الوصول إليه ولكنه لا يجده، يحاول رؤيته بين سحب السماء، ولكنه ليس هناك، فيقول الفارس أمام الموت: "الإيمان هو عبء ثقيل، وكأنك تحب شخصاً ما بين الظلام، لا يمكنك رؤيته، ومهما ناديت عليه لا يجيبك أبداً".
ولكن حقيقة وجود الموت أمام الفارس تخبره بأن ذلك المحبوب الخفي موجود هناك، وينتظر أن يأتي هو إليه، حتى يشتكي الفارس في مشهد آخر: "لماذا لا يمكنني قتل الرب داخلي، لماذا يعيش داخل قلبي بشكل دائم، وحتي مع رغبتي بالتخلص منه أجده هناك، حقيقة غير قابلة للتبديل، تبتسم لي بسخرية".
وهذا هو أجمل ما يحمله فيلم ظهر أمامي بين الظلمات، كيراعة هي مصدر الضوء الوحيد، وهكذا بعد فترة ليست بالقليلة من الصمت أخبرته بالاسم بلا تردد وقلت: "هو فيلم The Seventh Seal لإنجمار بيرجمان". داخل شخصية الفارس أنطونيوس، فذلك الرجل محمل بالغضب والنقمة على ذلك الرب الصامت، لا يمكنه التخلص منه بكل بساطة، فالرب فكرة مرتبطة بكون الإنسان إنساناً، ولا قيمة لإنسان دون وجود الرب داخل قلبه، لذلك كان يعاني ذلك الفارس، فقد ظن أن قيمته قد انعدمت وأن صمت الرب يعني عدم وجوده، ولكن قلبه يخبره دائماً بالعكس، وكذلك الموت المرعب أمام عينيه.
عن الموت
في The Seventh Seal يدور الحوار بين الفارس الغاضب والموت المرعب، ويخبر الفارس الموت بأنه يريد المعرفة لا الإيمان، ولا الافتراضات، بل المعرفة وفقط، يريد من الرب أن يمد يده إليه وينزع قناع الخفاء عن وجهه ويتحدث للفارس بصوته الألوهي كي يتأكد فقط بأن حربه لم تكن لأجل فراغ ووهم.
ولكن الموت يدرك الحقيقة، فرب الفارس لم يكن سوى تسلسل هرمي من الطغيان الكنسي الممتد على مر السنين، لذا يجيبه الموت بأن الرب سيظل صامتاً، وهكذا يرينا الموت بأنه مصدر الحقيقة، فالموت المحتوم، الحقيقة الوحيدة الأبدية بالنسبة للبشر سيكون دائماً الحاجز بين عالم الوهم الدنيوي وعالم الروح الحقيقي.
لكن الفارس لا ييأس ويقول للموت بأنه يناديه في الظلام، ولكن كأنه لا أحد هناك، فيلمح الموت له بالحقيقة الخفية عن الفارس كذلك ويقول: "ربما لا أحد هناك بالفعل".
ولكن الفارس اليائس لا يدري أن الموت أخبره الحقيقة بالفعل، وبأن الرب الذي ينادي عليه الفارس يختلف تماماً عن الرب الذي يرفض مغادرة قلبه.
فالرب الأول ليس سوى نظام أبوي صورة مطابقة لطغيان الرومان على العالم الشرقي، أما الرب الثاني فهو ضمير الفارس، والرابط الوحيد بين الإنسان والسماء، وبوصلته التي تجعله يدرك الصواب من الخطأ.
والآن بين اللمحتين السابقتين يمكنك إدراك ما يحمله فيلم The Seventh Seal من حوارات وتساؤلات حول البشر، وما يكنّون في قلوبهم من عطش نحو المقدس، حيث يمثل الفارس اليائس الكثير من نفوسنا البشرية والتي تقف عاجزة أمام صراعاتها الداخلية وتنتظر الموت في النهاية كي ترى الحقيقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.