منذ عام 1992 إلى عام 2005، حصل تفاهم في لبنان برعاية سعودية-سورية، قسَّم الأدوار إلى شقيْن، الأوّل اقتصادي-مالي وسياسة خارجية، وضع بين يديْ رفيق الحريري، يعاونه ويشرف عليه فريق سوري قوامه عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي، أمّا الثاني فعسكري "مقاوماتي" لإسرائيل، وضع بين يدي "حزب الله"، بمتابعة أمنية سورية، وبتفاهم بلغت إيران بعض زواياه، لا سيما لجهة رسم خطوط النفوذ السورية لإيران في لبنان وفي سوريا.
في العام 2005، جاء اغتيال رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري، ليقفل تلك الحقبة بأبشع صورة: اغتيال الشخص، والمشروع برمته، تفجيراً وحرقاً.
وخلال الفترة عينها، لم يكن الإصلاح السياسي والمالي ومحاربة الفساد على أجندة أي من الفرقاء، لا المحليين ولا الإقليميين ولا حتى الدوليين. كان المال يُستخدم لإفسادٍ أو إخضاعٍ أو شراء ذمم دون اعتراض من أحد بل بتواطؤ الجميع، أي كل الذين تشاركوا بعقود الطاقة والمشتقات النفطية والاتصالات وجمع النفايات والتعهدات والأسواق الحرة وكافة الأعمال التي تدر أرباحاً من هنا وهناك، ناهيك عن الأعمال المصرفية المشبوهة حينها (بنك المدينة مثالاً).
قلة قليلة من قوى متفرقة واصلت رفع الصوت اعتراضاً غير أنّها استبعدت عن كل انتخابات شهدتها البلاد منذ عام 1992 من خلال تحالفات هجينة أو تلاعب أو حتى إقصاء.
رغم كل ما سبق، بقي كيان الدولة قائماً منفصلاً عن كيان "حزب الله" حتى عام 2005، بحيث كان للدولة آليات عمل متكاملة ومتوازية على رغم "تناتش" الأحزاب بعض المواقع المتقدمة في الإدارة اللبنانية.
بداية قضم الدولة
قصة قضم الدولة بدأت مع انتخابات 2005 التي أشرفت عليها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الأولى، بعد اغتيال الرئيس الحريري. وقد ميّز تلك الانتخابات حلف رباعي ضم إلى "حزب الله" و"أمل"، تيار "المستقبل" والحزب "التقدمي الاشتراكي"، وطال فيمن طالهم أطراف "القوات اللبنانية" التي تبنت ترشيح إدمون نعيم عن دائرة بعبدا.
ظاهرياً، انطوت فلسفة الحلف الرباعي على "تجنب الصدامات الدموية والحروب الأهلية والتوترات المذهبية"، أمّا عمقها الذاتي فرمى إلى ضرب التيار العوني الصاعد بقوة إلى القمة، بما اصطلح على تسميته "تسونامي عون".
وفي السادس من شباط/فبراير من العام 2006، وقّع التيار العوني الصاعد اتفاق مار مخايل مع "حزب الله"، ما جعل الحزب بشكل أو بآخر يمسك بالأغلبيات الحزبية والطائفية: أطراف الحلف الرباعي والتيار العوني الذي تميّز تاريخياً بمعاداته للوجود السوري من جهة، وأيديولوجية "حزب الله" وسلاحه من جهة ثانية.
وبُعيد عدوان تموز/يوليو من العام 2006، قاد رئيس الحكومة آنذاك، فؤاد السنيورة، مواجهات عديدة مع الحزب أدت في نهاية المطاف، ونتيجة "ميني حرب أهلية" اشتعل فتيلها في السابع من أيار/مايو 2008، أدت إلى استسلام فعلي للأغلبية النيابية، وأبرزها المكون السني، لسلطة "حزب الله" برعاية عربية.
وقد ترجم هذا الاستسلام عبر توقيع اتفاق الدوحة الذي فرض تعديلات دستورية مؤقتة، أفضت إلى رسم المشهد السياسي اللبناني برمته بريشة "حزب الله". ولأنّ المؤقت يصبح عرفاً أو تعديلاً دائماً في لبنان، ليس ما نشهده اليوم سوى نتيجة طبيعية لتعديلات دستورية "أريد لها أن تكون مؤقتة".
عمد "حزب الله" بمعاونة حركة "أمل"، إلى فرض أعراف جديدة وإدارة جديدة للدولة سرعان ما تطوّرت بعد انتخابات 2009 التي حصلت أيضاً بتفاهم سعودي-سوري. وهكذا، تأمنت عودة سعد الحريري إلى السلطة من بوابة "حزب الله" ودمشق، برعاية السعودية، التي زارها رئيساً للحكومة.
بعد انتخابات عام 2009، ورث "حزب الله" تركة سوريا وتركة الحريري الأب كاملة من حيث الإشراف وتوزيع المغانم والأرباح. ونظراً إلى أنّ الظروف تبدّلت على وقع تطورات الإقليم المتسارعة، حافظ "حزب الله" على المغانم والأرباح، بل حرص على صيانتها وتعزيزها على اعتبار أنّ إدارة تلك التركة تساعده في إحكام قبضته على النخبة السياسية. أولى التجليات برزت في 2013 مع تأجيل الانتخابات النيابية المقررة للعام نفسه.
وفي عام 2014، وفي مصادرة موصوفة للعبة الديمقراطية، تصلّب الحزب والتيار "الوطني الحر" في محاولة فرض الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية، ما أفرغ الموقع الأول من شاغله لمدة سنتيْن ونيف. هذا الإفراغ أدى إلى تفاهمات بين رئيس حزب "القوات" سمير جعجع وعون من جهة، والحريري وعون من جهة ثانية، تفاهمات تشبه في مضمونها استسلام الحريري ورئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط لـ"حزب الله"، بعد أيار/مايو 2008 وتزيد من قضم الدولة ومؤسساتها وسلطاتها، لتضع مزيداً منها بيد الحزب.
وما لبثت سيطرة الحزب أن تعززت مع استقالة الحريري، في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 من الرياض، ثم عودته عنها في بيروت، وانطلاق السباق الانتخابي للعام 2018 الذي تحالف فيه "المستقبل" مع "الوطني الحر".
ما بعد انتخابات 2018.. الواقع الجديد
وبعد انتخابات 2018، أُسقط من يد كل القوى كل حضور وازن في المعادلة الداخلية والمعادلة الإقليمية، فانخرطت البلاد في التماهي مع المحور الإيراني في المنطقة وتحوّل "حزب الله" إلى الحاكم الفعلي للبنان من دون أن يتحمّل مباشرة مسؤولية الحكم فيه.
مع اندلاع انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر للعام 2019 واستقالة حكومة الحريري بعد أيام من انطلاقها، بوشرت عملية إحكام القبضة على القرار في لبنان ومحاولة ضرب القوى المنتفضة وتخوينها وصولاً إلى إخضاع الطبقة السياسية، الخائفة بسبب الفضائح التي كُشفت عنها، لإرادة "حزب الله"، من خلال القبول بتأليف حكومة الدكتور حسان دياب التي لم ترحل إلا بانفجار المرفأ الزلزالي. هذا الانفجار الذي فاقت قوته السياسية، لا سيما في المجتمع المسيحي، قوة زلزال اغتيال رفيق الحريري.
ومع تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، في أيلول/سبتمبر 2021، قصد قائد مقر خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري الإيراني، اللواء غلام علي رشيد، أن يعلن أنّ "القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني كان قد أبلغ قادة القوات المسلحة الإيرانية، قبل اغتياله بثلاثة أشهر، أنه قام بتنظيم ستة جيوش خارج الأراضي الإيرانية، وذلك بمساعدة الجيش الإيراني والحرس الثوري".
وبالطبع، من بين هذه الجيوش "حزب الله" الذي أعلن أمينه العام السيد حسن نصرالله بعد أحداث الطيونة، في منتصف تشرين الأول/أكتوبر، أن تعداد هذا الجيش قد بلغ مئة ألف، في دلالة واضحة إلى تجاوز تعداد الحزب، تعداد القوات المسلحة اللبنانية كلها.
على خط الزلازل
اليوم، مع محاولات تعطيل تحقيق المرفأ من خلال شيطنة القاضي طارق البيطار وربطه بسفارة من هنا وأجندة من هناك، ومع تمسك "حزب الله" بوزير لم يكن تصريحه العبثي ليستحق كل هذه المعركة لولا ارتباطه بكل ما سبق، يستكمل الحزب إمساكه بمفاصل السلطة برمتها، سواء ظن الأمريكيون أو الغرب أنّ مواجهة الحزب بصناديق الاقتراع ستفرض قواعد جديدة أم لا. ولعل لسان "الحشد الشعبي" وممارسته بعد قرابة الشهر على إعلان نتائج انتخابات العراق يؤشران إلى أنّه "حتى لو خسرنا الانتخابات نفرض شروطنا بالقوة المسلحة".
وعليه، لم يعد يفيد التساؤل عن سبب إدارة خصوم إيران في المنطقة، وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ظهورهم إلى لبنان، فالقصة ليست قصة الوزير جورج قرداحي و"رمانة"، بل هي قصة "حزب الله" و"قلوب مليانة".
يقف لبنان اليوم على خط الزلازل بين احتمال عودة دولة هُمِّشت وهُشِّمت وصودرت كل صلاحياتها ودورها من ناحية، وبين سقوط لبنان كله بيد "حزب الله" كحاكم علني أوحد، من ناحية ثانية. بلد لم يستطع أن ينأى بنفسه عن الصراعات الإقليمية، بل انخرط فيها أيّما انخراط، يدفع أبناؤه جميعهم ثمنه اليوم، فها هم يُمَسون بأمنهم ورزقهم وأعمالهم حتى بات منطق أغلبهم يتساءل: "ماذا يفيد لو حررنا أرضنا من رجس الاحتلال وخسرنا الوطن الذي يجب أن يجمعنا في بوتقة واحدة؟".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.