إن ميول الشباب وأنماط تنشئتهم من جملة الأسس التي تحدد عالم المستقبل.
ويمكن أن نتعامل مع مسألة التنشئة الاجتماعية على أنها حالة تاريخية تُكرر نفسها على الدوام، تتجاوز كونها مجرد مسألة أجيال بسمات معينة مثل X, Y, Z.
من ذلك المنظور سنجد أنه على الدوام كانت هناك اختلافات على مر التاريخ بين الأجيال في الاختيار والميول والمفاهيم، وكلما تعاملنا مع تلك الحقيقة على أنها موقف مرير للغاية اكتشفناه للتو أو حل علينا فجأة زادت فرص وقوعنا في قلق أو ذعر لا مكان له ولا ضرورة.
ما يجب أن نعلمه هو أن القيم والمبادئ التي ندافع عنها اليوم ونناضل لأجلها تكون لها قيمة حقيقية تُترجم إلى لغة كل جيل، كما تجد طريقة لمخاطبة كل فرد باللغة التي يفهمها، فلا داعي أو ضرورة للقوقعة داخل القلق من عدم وصول هذه القيم للأجيال القادمة أو عدم تبنيهم لها.
وكما أننا نخضع لامتحان القيم اليوم وفق إدراكنا وفهم ولغة عصرنا، ستخضع الأجيال القادمة من بعدنا كذلك للحقائق ذاتها، وفق إدراكها الخاص كذلك، وعلى صعيد آخر، كما أن نجاحنا في هذا الاختبار لن يضمن بالتالي نجاح الأجيال القادمة، فإن فشلنا كذلك لا يعني بالضرورة أن الأجيال القادمة لن تنجح.
إن قضية التوحيد التي خاطبت كل جيل منذ الإنسان الأول ليومنا هذا ستكون في مقدمة القضايا لدى الأجيال القادمة، لكن هذا لا يتطلب منا أن نتحدث اليوم عما سينجحون به أو سيفشلون.
تلك الحقيقة الأساسية فيما يتعلق بالأجيال.
جيل Z
لا شك أن الجيل الذي يسمّى اليوم بجيل Z مختلف، إلا أن هذا لا يشير بأي حال إلى أنهم جيل أكثر وعياً أو أقل ذكاء أو غير مكتمل، بل يشير إلى أنهم جيل مختلف قليلاً فحسب.
على مر التاريخ والناس يتفاوتون عبر مستويات مختلفة للغاية في مشاعرهم الدينية وحالتهم الروحية، ولم يكن الناس في الماضي أكثر أو أقل تديناً من اليوم، كما أن أناس المستقبل لن يكونوا أكثر أو أقل كذلك، بل كان الناس في الماضي أقل أو أكثر تمسكاً مما نحن عليه اليوم إزاء مبادئ معينة، لقد واجه كل جيل من الأجيال عبر التاريخ امتحانه الخاص والأسئلة البشرية ذاتها تقريباً.
إن جميع الأمراض البشرية الناشئة عن العواطف والمواقف الأساسية مثل مرض العنصرية والتمييز، ومرض الغطرسة، والنظر للآخرين بازدراء وفوقية، والعبودية، والسرقة والقتل، والكراهية والانتقام، والجشع والغيرة والجهل، كانت جميعها على الدوام أمراضاً عالمية ويمكن رؤيتها وملامستها في كل مكان وكل وقت. وبغض النظر عن حجم تقدم البشرية وتحضرها لم يتم العثور على علاج نهائي للتغلب على هذه الأمراض بشكل كامل. والأجيال الحديثة وعلى رأسهم جيل Z تتفشى بينهم الأمراض بسرعة أكبر، لتعرضهم الدائم لخطابات العنصرية والكراهية والجشع والأنانية بشكل أكبر عبر منصات التواصل الاجتماعي.
لكن بشكل عام، هذا هو المبدأ الأساسي فيما يتعلق بالتغيير التاريخي للأجيال. ويمكن رؤية هذا المبدأ بشكل واضح في الحقيقة عند قراءة كتابات "ابن خلدون" من جهة وعلم الاجتماع الحديث من جهة أخرى. لكن ومع ذلك فهناك بالفعل أشخاص نعرفهم قد قرأوا الكثير ما يكفي لرؤية ذلك، إلا أنهم يزعمون وجود هوية جديدة وأصيلة لجيل جديد لم يسبق له مثيل من قبل، بل يتحدثون عن "تخمينات لا يمكن معالجتها بالمعرفة".
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي لا يقع على الأجيال الصغيرة حصراً، من الممكن نسج العديد من القصص التي تبدو مختلفة في الواقع بشكل كبير من خلال التركيز على أنماط الحياة ووسائل الإعلام والتواصل الجديدة التي قد أصبحت بلا شك جزءاً، إن لم تكن الكل، من حياة الشباب اليوم.
إلا أن شبكات الإعلام والتواصل الجديدة أو التكنولوجيا عامة لا تؤثر على الشباب فحسب، بل هي تؤثر على الجميع دون استثناء وتسخرهم لخدمتها من أجل تحقيق غرضها الخاص.
وإلى جانب الدراسات الهائلة التي أجريت حول كيفية تأثير هذه الوسائل على الشباب في تركيا، يوجد بين يدي دراستان حديثتان حول تأثيرها على الشباب العربي.
والسبب في الحديث عن ذلك بشكل خاص هنا، هو أنها دراسات مثيرة للاهتمام من حيث الكشف عن إرادة وهوية يقاومان العديد من العوامل مثل وسائل التواصل الاجتماعي، والأنظمة المستبدة، والمتعة والثقافة الشعبية وما شابه، والتي من المفترض أن تحل مكان إرادة الشباب بعد إعادة ضبطها بالكامل.
القضية الفلسطينية بالنسبة للشباب العربي
قامت مؤسسة Feed البحثية، بإجراء تحليل شامل لأبرز اهتمامات الشباب العربي من 5 دول على موقع تويتر، بين 20 أغسطس/آب و19 سبتمبر/أيلول، وقامت بتحليل أكثر من 100 مليون تغريدة (بالعربية والإنجليزية) في خمس دول عربية، هي مصر والسعودية وتونس وليبيا وقطر، كما حلّلت اهتمامات 660 ألف مستخدم للموقع من هذه البلدان.
بالطبع كشفت هذه التحاليل عن أمور عدة، من ضمنها هي أن هؤلاء الشباب لم يكونوا مبالين تماماً بالتطورات الحاصلة في بلدانهم لأنهم لم يكونوا مشاركين بها أو في صنعها بشكل كبير.
ولأن هؤلاء الشباب كانوا مهتمين بالقضايا الدولية بدرجة أكبر، تعاملوا مع تطورات بلدانهم بنوع من السخرية. على سبيل المثال، انتشر قدر كبير من التغريدات حول أفغانستان في جميع هذه البلدان الخمسة ضمن التاريخ المذكور، ما أظهر بوضوح الاهتمام السياسي لدى هؤلاء الشباب.
هناك دراسة أخرى تتماشى مع هذه الدراسة وتدعمها بشكل كبير. حيث أظهرت دراسة تقييمية لمجموع بيانات 4 شركات من بينها بي بي سي، والبارومتر عربي، أن القضية الفلسطينية لا تزال من أهم القضايا بين الشباب العربي.
كما تظهر الدراسة أن الشباب العربي يعارض بشدة السياسات التي تنتهجها بلدانهم أو قادتهم السياسيون تحت عنوان "التطبيع".
بادرة التغيير لدى الشباب العربي
إن هذه البيانات والمعطيات التي لا جدال فيها تظهر ما يكفي من أن الشباب سيتخذون موقفاً مشرفاً للمستقبل، على الرغم من كل ما يتم لصقه بجيل Z من فرضيات ومزاعم جاهزة. ومما لا شك فيه في المقابل، أن هناك بيانات أيضاً أظهرت وجود تباعد ملحوظ عن التدين لدى هؤلاء الشباب ذاتهم خلال السنوات القليلة.
وفي الحقيقة ليس من المستغرب وجود هذه النتائج والمعطيات فيما يتعلق بالتدين، ونحن نتحدث عن بيئة عربية مشابهة لما عاشته تركيا في حقبة ما يعرف بـ28 شباط/فبراير، لكن مع ذلك لا ينبغي القطع بفرضيات رخيصة وجاهزة بمعالم المستقبل الذي يسير نحوه المجتمع.
25% من هؤلاء الشباب في العالم العربي فقراء وعاطلون عن العمل، على الرغم من أن بلدانهم تمتلك أغنى موارد تحت الأرض على مستوى العالم، والأهم أن جزءاً كبيراً منهم يميلون للهجرة من الوطن. ومن لا يستطيع الهجرة منهم يحاولون جعل المجتمع ديناميكيّاً للغاية للسير نحو التغيير من أجل الكرامة والحرية والعيش الكريم، في مواجهة الطبقات "النخبة" التي تصادر موارد الوطن بشكل غير عادل.
وبعبارة أخرى، تغلي المجتمعات العربية من الداخل، وبغض النظر عما يقوله هذا أو ذاك، علينا توقع أي شيء في أي لحظة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.