غرَّد الوزير سفير المملكة العربية السعودية في لبنان وليد البخاري قائلاً: "تَكْمُنُ الأزمةُ تحديداً في أنَّ القديمَ يُحْتَضَرُ وَالجديدَ لم يُولدْ بعد ..وَفي ظلِّ هذا الفراغِ يظهَرُ قَدرٌ هائلٌ من الأعْراضِ المَرَضِيَّة". المُفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي.
قد يأتي هذا القول كتعبير أمثل عن الوضع السياسي الحالي في لبنان، والأزمات التي أصبحت تضرب لبنان تلو الأزمات، تكاد لا تحصى، من أزمات اقتصادية واجتماعية ومالية وسياسية، وكل هذه الأزمات تثبت يوماً بعد يوم، أن النظام اللبناني السياسي هو أساس هذه الأزمات.
مائة سنة من خلق النظام اللبناني ككيان دولة يقول البعض إنها كافية لإثبات أن النظام غير قادر على الاستمرار بصيغته السياسية، ولكن يختلف البعض بين أكثرية ترى أن تغيراً يجب أن يحدث بالمضمون، فيما يرى البعض الآخر أنه يجب أن يكون من حيث الشكل والمضمون.
تاريخياً
مر الكيان اللبناني بمجموعة من المحطات الرئيسية، والملاحظ دائماً أن الوصول لتلك المحطات يرتبط دائماً بتراكم لمجموعة كبيرة من الأزمات، وفي الجزء الأعظم منها، يسبقها حروب ودماء.
قائم مقاميتي جبل لبنان 1843-1861
نتج عن حرب أهلية بين الموارنة والدروز وكانت شرارة الحرب هي اصطياد شاب مسيحي ماروني من دير القمر لطائر حجل في أرض درزية، سرعان ما تحول الأمر لحرب طاحنة بين الدروز والمسيحيين امتدت إلى مناطق جغرافية بعيدة عن الحادث الأساسي، وسقط مئات القتلى.
أما الأسباب الإقليمية والدولية فكانت هزيمة حاكم الجبل الأمير بشير الشهابي الثاني وحليفه المصري محمد علي باشا، على يد العثمانيين والإنكليز، إضافة للصراع الدولي بين الإنكليز والفرنسيين على الأسواق لتصريف منتوجاتهم، فحثّ الفرنسيون الموارنة على إزاحة الحاكم الجديد الذي كان يسعى للتقرب من الإنكليز، فاتفقت الدول على إنشاء نظام قسم لبنان إلى مقاطعتين: قائم مقامية جنوبية يحكمها درزي، وقائم مقامية شمالية يحكمها ماروني.
متصرفية جبل لبنان 1861 -1918
نتجت عن حرب طائفية طاحنة بين الدروز والموارنة (1860) ثم تطورت لتتحول إلى قتال بين المسلمين والمسيحيين ووصلت إلى دمشق، وراح ضحيتها ما بين 7 آلاف إلى 20 ألف قتيل.
وإن كانت الحرب التي سبقته اشتعلت شرارتها نتيجة صيد الحجل؛ فمجازر 1860 كما يقول أنطون عقيقي في كتابه "ثورة وفتن" بأن الشرارة كانت خلافاً نشب بسبب اصطدام دواب ببعضها! (الأغلب حمير)، فصدمت دابة المسيحي دابة الدرزي لتتطور الأمور وتراق الدماء.
وأما على الصعيد الإقليمي والدولي فنكتفي بذكر جزء من رسالة بعثها يوسف كرم إلى البطريرك بولس مسعد جاء فيها: "لقد أصبحت أمورنا في هذه الأيام تابعة لإنكلترا وفرنسا، وإذا ضرب أحد رفيقه تصير المسألة إنكليزية فرنسية، وربما قامت الدولتان من أجل فنجان قهوة يُهرَق على الأرض".
اتفقت الدول وهي السلطنة العثمانية وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا، جعل هذا النظام السياسي الجديد جبل لبنان منفصلاً لأول مرة من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام، تحت حكم متصرف أجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني تعينه الدولة العثمانية بموافقة الدول الأوروبية العظمى.
لبنان الكبير (1920-1926)- الجمهورية اللبنانية (1943- وقتنا الحاضر)
لبنان الكبير والجمهورية اللبنانية كانت نتاج الحرب العالمية الأولى التي أنتجت لبنان الكبير، والحرب العالمية الثانية التي أنتجت الجمهورية اللبنانية نتيجة لمجموعة كبيرة من التدخلات الدولية أبرزها اتفاقية سايكس بيكو الفرنسية الإنكليزية. وكانت نتيجته ولادة الكيان اللبناني بموروث سياسي-طائفي يعكس المراحل السابقة، وكان ميثاق الوفاق الوطني الذي كُرس بين المسلمين والمسيحيين يقوم على تقاسم السلطة بين الطوائف.
أحداث 1958- الحرب الأهلية 1975
جاءت أحداث 1958 بعد خمس عشرة سنة من الاستقلال وما حملته من صراع طائفي وبرك دماء وبارود لتكون الإنذار المبكر للسياسيين ورجال الطوائف بأن قواعد الكيان اللبناني غير ثابتة، إلا أن المصالح الشخصية الضيقة لهم والمصالح الإقليمية والدولية من الساحة اللبنانية غير مستقرة أوصلت البلاد لأكثر الأحداث دموية عام 1975، من صراع طائفي ومذهبي وطبقي ارتبط بحروب الآخرين من دول إقليمية ودولية على الأراضي اللبنانية.
إلا أن الإرادة الدولية بشكل خاص وبعكس التجارب السابقة لم تذهب إلى تغير من حيث الشكل في الكيان اللبناني، بل جاء الاتفاق الأمريكي-السعودي-السوري ليترجم في اتفاق الطائف 1989، الذي ارتبط بتغير في النظام الداخلي في جوهر الكيان عبر تغيرات طالت الدستور، راضخة للتغيرات الديموغرافية الطائفية بشكل جزئي، بمعنى سُحب من الموارنة صلاحيات واسعة، بمقابل تم تثبيت مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين دون الأخذ بعين اعتبار أعداد المسلمين الذين أصبحوا أكثرية.
7 أيار- اتفاق الدوحة:
أثبتت أحداث 7 أيار مرة جديدة أن النظام اللبناني هش، وأن قواعد النظام في لبنان أضعف من أن تقيم دولة القانون، وأن الطوائف في لبنان وارتباطاتها الخارجية، أقوى من هيكل النظام ومن الدولة.
اليوم
الحديث الذي كان غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005، وكان يحكى بالهمس، أصبح صداه العالي يتردد يومياً في الصالونات السياسية، وأصبح إيقاعه يضرب بعض المنابر، بأن اتفاق الطائف أصبح بحكم المنتهي، النظام اللبناني أمام الامتحان الكبير، وهو البحث عن تعديلات جديدة للنظام اللبناني، فيما أقلية ترى بأن الكيان اللبناني برمته يجب إعادة النظر فيه، الحديث الذي يشغل بال الكثيرين اليوم هو المؤتمر التأسيسي، كثير من السياسيين يتحضرون للحظة الدولية والإقليمية المناسبة لعقد هكذا مؤتمر، والجزء الأكبر من الكباش السياسي اليوم يصب في هذا الأمر.
المسيحيون يبحثون عن صلاحيات يعتبرونها حقهم المسلوب منهم، جزء منهم مع إجراء تعديلات تعيد لهم صلاحيات الأمس أو على الأقل جزء كبير منها، لكن مع الإبقاء على شكل النظام.
فيما جزء لا بأس فيه، مع فكرة تغيير الكيان اللبناني ومضمونه والذهاب إلى نظام فيدرالي يعطي للمسيحيين نوعاً من الإدارة الذاتية، حيث تَعتبر أطياف منهم، حسب الحديث المتناثر هنا وهناك، بأن أعداد المسلمين المتزايدة أكبر الأخطار عليهم، ويعتقدون بأنهم يملكون القدرة على إدارة البلد كنموذج أوروبي أفضل من مشاركة المسلمين هذه الإدارة، وهم يتسلحون بنماذج من النجاحات التي حققت على الصعيد البلدي في مدن وقرى مسيحية.
أما السنة فهم لا زالوا تحت مجموعة من الصدمات، أولها خسارة الثورة السورية لإمكانية تغيير النظام في سوريا في المدى القريب، وهي واحدة من كبرى الصفعات التي يتحملون اليوم نتائجها في الداخل اللبناني، ثاني الصدمات كانت الانكفاء السعودي عن الساحة اللبنانية بشكل عام وتوتر العلاقة بين تيار المستقبل والسعودية، ويحاولون تجنب الحديث عن مؤتمر تأسيسي أو تغيير في النظام، ويكابر أكثريتهم بأن اتفاق الطائف لا يزال قادراً على الحياة. وهم الأكثر تشرذماً وضعفاً في الوقت الحاضر.
الدروز بشكل عام، تَغيَّرَ النظام أو لم يتغير، لا يشكل لهم مشكلة في أسوأ الحالات، وذلك لارتباطهم بالديموغرافية الطائفية، فإن حصصهم من أي نظام تبقى إلى حد ما محفوظة، أكبر أمنياتهم في الحصول على رئاسة مجلس الشيوخ في أي تعديل.
أما الشيعة فهم بأغلبيتهم الأكثر تحمساً للمؤتمر التأسيسي، تاريخياً لم يصلوا يوماً إلى المستوى التنظيمي الذي يعيشونه اليوم، إن كان على المستوى السياسي أو حتى العسكري، وعدديّاً يتنافسون والطائفة السنية في الولادات، إلا أنهم أكثر استقراراً وتنظيماً، وانعكست خسارة الثورة السورية بالدفع الإيجابي الكبير عليهم، ويحاولون استثمار هذه القوة الفائضة في فرض مؤتمر تأسيسي يستطيعون فيه فرض تعديلات تصب في مصلحتهم.
أكثر الأطروحات التي يمكن أن يطمح إليها الشيعة بأغلبيتهم هي فكرة المثالثة، والتي تطرح في الكواليس بفكرتين، أولاهما تقاسم السلطة بين الشيعة والسُنّة والموارنة دون سواهم من المذاهب، أما الطرح الثاني فيقوم على إعطاء الطائفة الشيعية منفردةً الثلث، وثلث للمذاهب الإسلامية الأخرى (السنة، الدروز، العلوية…)، وثلث للمذاهب المسيحية مجتمعة (موارنة، أرثوذكس، روم، أرمن…).
تثبت الأحداث، خاصةً الأمنية-الطائفية، التي تشبه أحداث خلدة وأحداث الطيونة وغيرها، أن المؤتمر التأسيسي قادم لا محال، وأن لبنان مقبل على إعادة صياغة لنظامه إن لم يكن لكيانه الذي يمكن أن يتفكك إلى كيانات، وكلما اقتربنا من هذا الحدث الضخم، كانت الأمور الأمنية والسياسية ذاهبة إلى تعقيدات أكبر، ومن خلال التجربة التاريخية، يبدو أنه من المستحيل الوصول لهكذا حدث دون المرور ببحيرات ضخمة من الدماء والدمار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.