يعرف مركز الناتو المتخصص للابتكار والأمن الدفاعي (IDEAS) بأنه مركز ابتكار، ومقره في كندا لكنه لم يتم حصره ضمن قائمة "مراكز التميز" المعتمدة رسمياً لحلف الناتو، حتى لا يتم لفت الانتباه إلى مجالات عمله.
تأسس المركز وبدأ عمله في عام 2017، ويشير الموقع الإلكتروني للمركز إلى أنه يركز على مجموعة من المجالات لعمله وهي: (التعليم والتدريب، آليات صنع القرار، الفضاء الإلكتروني، المبادرات الإنسانية، المعلومات والتضليل، أما المجال الأهم والأكثر تكراراً وتشابكاً مع المجالات الأخرى هو "الحرب الإدراكية").
ففي نهاية عام 2020، نشر المركز كتاباً عن "الحرب الإدراكية" للكاتب "فرانسوا دي كلوزيل".
تقول مقدمة الكتاب: ينظر إلى العقل البشري الآن على أنه ميدان جديد للحرب؛ حيث إن الحرب الإدراكية لها امتداد عالمي، من الفرد إلى الدول، مروراً بالمنظمات متعددة الجنسيات لأنها تستخدم تقنيات التضليل والدعاية التي تهدف إلى الاستنزاف النفسي لمستهلكي المعلومات؛ حيث يمكن استخدام المعرفة بسهولة كسلاح، وسيكون المجال المعرفي إحدى ساحات القتال في المستقبل، وسيتم تعزيز هذا المنظور بشكل أكبر من خلال التطور السريع لتقنية النانو والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات وفهم العقل البشري.
بالطبع هذه التقنيات والاهتمام بها ليس بالأمر الجديد لجيوش الناتو؛ حيث قامت الوكالات الأمريكية DARPA وIARPA بتطوير هذا المجال منذ سنوات لأنها ترى أن الحرب المعرفية لها أهمية كبرى في حروب المستقبل.
ومن بعض التعاريف المهمة للحرب المعرفية أنها هي حرب الأيديولوجيات التي تسعى إلى تقويض ومحاصرة الثقة التي تكمن وراء كل مجتمع، حيث تستغل نقاط الضعف الكامنة في العقل البشري، في إشارة إلى الطريقة التي يصممها العقل لمعالجة المعلومات.
فلقد طورت الشركات الكبيرة في الاقتصاد الرقمي طرقاً جديدة لجمع البيانات تسمح باستخدام المعلومات الشخصية التي لا ينوي المستخدمون الكشف عنها، حيث أصبحت البيانات الزائدة عن الحاجة أساساً لأسواق التنبؤ الجديدة التي أنشأتها الإعلانات المستهدفة.
كل هذا تم إنجازه من قبل شركات غربية عملاقة مثل Facebook وGoogle وAmazon وMicrosoft وجميع هذه الشركات في شراكة مع وكالات الاستخبارات الامريكية مما يشكل خطراً إضافياً للتلاعب بالمستخدمين.
كيف أثر البريطانيون على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟
حيث يمكن استخدام عدم وجود تنظيم للفضاء الرقمي لأغراض ضارة، كما أظهرت فضيحة شركة "Cambridge Analytica" التي قامت باستخدام تقنيات المسح والقياس النفسي المتقدمة، تمكنت هذه الشركة من جمع كمية هائلة من البيانات حول الأشخاص، وساعدت هذه البيانات الشركة على فهم ما يفكر فيه كل من وصلت إليهم.
مثلت هذه الفضيحة التي اندلعت حول الشركة البريطانية "Cambridge Analytica" التي تتعامل مع التأثير على سلوك المستخدم في الشبكات الاجتماعية. وكانت الشركة تأسست في عام 2013 كشركة تابعة لشركة SCL Group البريطانية؛ حيث أبرمت شركة كامبريدج أناليتيكا اتفاقية مع محاضر في كلية علم النفس بجامعة كامبريدج، ألكسندر كوجان، وهو مواطن من الاتحاد السوفيتي السابق.
طوَّر كوجان تطبيقاً لاستطلاع الأشخاص على Facebook حيث تلقى التطبيق إذناً من المستخدمين لاستخدام بياناتهم الشخصية، ولقد قام التطبيق أيضاً بجمع بيانات حول أصدقاء المستخدمين الموافقين على الاستطلاع، وبعد استطلاع 270 ألف مستخدم، تلقت الشركة معلومات عن 50 مليون شخص.
فالشائع أن مستخدمي الشبكات الاجتماعية الذين تم تعظيمهم من خلال تقنيات وسائل الاتصال الحديثة، يضعون كل ما يتعلق بتفكيرهم ومشاعرهم وردود أفعالهم على صفحاتهم الشخصية ما يعكس أن من يمتلك هذه البيانات لديه كنز من المعلومات التي يستطيع توظيفها لتسخيرها لفهم تصرفاته ومن ثم إقناعهم بما يريدون برسائل موجهة إليهم.
لذلك امتلكت شركة Cambridge Analytica على سبيل المثال كمية هائلة من البيانات بين يديها، مما سمح لها بالتلاعب بسلوك هؤلاء الـ50 مليوناً، (50 مليون وحدة من العقل البشري) من خلال نهج "إبداعي" للتحكم في اختياراتهم بعد تحليل البيانات التي تم جمعها لأغراض الدعاية السياسية.
وأنشأت Cambridge Analytica ملفات تعريف مستخدم نفسية نموذجية، ووفقاً لما ذكرته وكالة دويتش فيله الألمانية فإن الشركة البريطانية شاركت بنفسها في الحملة الانتخابية لرئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب، لتقوم بمهمة تطوير الإعلانات وإدراجها على الإنترنت، مع مراعاة السمات النفسية للمستخدمين.
وتنسب الشركة الفضل لها في فوز ترامب في الانتخابات. وتقول شبكة دويتشه فيله الألمانية إن ستيف بانون، المستشار الأول للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب للقضايا السياسية والاستراتيجية، كان نائباً لرئيس شركة Cambridge Analytica البريطانية.
إن فكرة استخدام الدعاية الموجهة لأغراض سياسية ليست جديدة، فباستخدام معلومات حول تفضيلات المستخدمين للشبكات الاجتماعية تمكنت الشركة من إحداث تأثير كبير- إن لم يكن حاسماً-، على نتيجة الانتخابات الأمريكية، حيث طورت الشركة خوارزميات لتحليل التفضيلات السياسية للناخبين وأرسلت للمستخدمين هذه الإعلانات السياسية التي كان من المحتمل أن تؤثر على اختيارهم
يقول كتاب "فرانسوا دي كلوزيل": المعرفة السلوكية هي أحد الأصول الاستراتيجية، حيث يكيّف علم الاقتصاد السلوكي البحث النفسي مع النماذج الاقتصادية، مما يخلق تمثيلات أكثر دقة للتفاعلات البشرية.
علم النفس السيبراني
جانب آخر مثير للاهتمام تم تسليط الضوء عليه في البحث حول الحرب المعرفية (حرب العقل البشري) وهو علم النفس السيبراني، حيث يقع علم النفس السيبراني على مفترق طرق بين مجالين رئيسيين: علم النفس وعلم التحكم الآلي.
يركز علم النفس السيبراني على توضيح آليات الفكر وعلى مفاهيم واستخدامات وحدود النظم السيبرانية، وهو قضية رئيسية في مجال العلوم المعرفية حيث يقدم تطور الذكاء الاصطناعي كلمات ومفاهيم جديدة، ونظريات جديدة تشمل دراسة الأداء الطبيعي للبشر والآلات التي صنعوها والتي تعتبر اليوم مندمجة بالكامل في بيئتهم الطبيعية فيما يعرف ببيئة (الإنسان التقني).
حيث سيتعين على بشر في المستقبل أن يخترعوا سيكولوجية لعلاقتهم بالآلات، لكن التحدي يكمن في تطوير نفسية الآلات أو برامج الذكاء الاصطناعي أو الروبوتات الهجينة، وهو مجال رئيسي في مجال من مجالات العلوم المعرفية، ويتطلع في المستقبل ليطوروا سيكولوجية جديدة في علاقة الإنسان والعقل البشري بالآلات.
تحدي فهم العقل البشري
في الحرب المعرفية من المهم أن تعرف نفسك أكثر من أي وقت مضى، فقد طور البشر تكيفات للتعامل مع القيود المعرفية مما يسمح بمعالجة أكثر فاعلية للمعلومات، لكن لسوء الحظ تؤدي هذه الاختصارات إلى حدوث تشوهات في ملفات تفكيرنا وتواصلنا مما يجعل جهود الاتصال غير فعالة، وخاضعة للتلاعب من قبل الخصوم الذين يسعون إلى التضليل أو التشويش.
وتؤدي هذه التحيزات المعرفية إلى الأحكام غير الدقيقة واتخاذ القرارات الخطأ التي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد غير مقصود في سلوك البشر، أو منع تحديد التهديدات في الوقت المناسب، كما يمكن أن يساعد فهم مصادر وأنواع التحيزات المعرفية لدى العقل البشري في تقليل معدلات الخطأ وتطوير استراتيجيات أفضل للاستجابة لمحاولات الخصوم استخدام هذه التحيزات لصالحهم.
مشكلات العقل البشري
لكي نفهم العقل البشري يجب أولاً أن نفهم ما هي أخطاؤه، والتي تتمثل في:
– العقل البشري غير قادر على التمييز بين ما إذا كانت معلومات معينة صحيحة أم خاطئة.
– العقل البشري يقود إلى اتخاذ طرق مختصرة في تحديد مصداقية الرسائل في حالة الحمل الزائد للمعلومات.
– العقل البشري يقود إلى تصديق أقوال أو رسائل سمعت على أنها صحيحة بالفعل على الرغم من أن هذه التصريحات قد تكون خطأ.
– العقل البشري يقبل البيانات على أنها صحيحة، إذا كانت مدعومة بالأدلة، دون اعتبار لصحة هذه الأدلة.
مستقبل الحروب المعرفية
في يونيو/حزيران 2021 نشر مركز IDEAS التابع لحلف الناتو ومقره كندا دراسة أخرى حول موضوع الحروب المعرفية؛ حيث يقدم تعريفات للمصطلحات الإدراكية، مما يشير إلى اعتماد مفهوم الحرب المعرفية من قبل الناتو فيعرف الحرب المعرفية بأنها: "نهج من الأسلحة المشتركة التي تجمع بين القدرات القتالية للهندسة السيبرانية والمعلوماتية والنفسية والاجتماعية لتحقيق النصر دون وجود صراع جسدي".
ويعتبر هذا النوع الجديد من الحروب مرتبطاً باستخدام جهات خارجية للرأي العام كسلاح للتأثير على الشعوب وزعزعة استقرارهم؛ حيث تعرض الدراسة عدداً من التقنيات التي تهدف إلى تحسين عمليات الناتو.
تتكون التقنية الأولى من الوسائل الحقيقية للحرب الإلكترونية المعرفية الذي تشير إلى استخدام الأنظمة المعرفية أو الذكاء الاصطناعي أو التعلم الآلي لتحسين تطوير وتشغيل تقنيات الحرب الإلكترونية.
أما بالنسبة للتقنية الثانية، فهي الطباعة الحيوية ثلاثية الأبعاد باستخدام الأنسجة العصبية، والتقنية الثالثة هي مدرب الأداء الإدراكي للواقع الافتراضي، وتكمن أهمية هذا الأمر في إجراء التحفيز العصبي لدى البشر والتحكم في تصرفاتهم.
وبالمناسبة، كان الشعب الكندي أوّل ضحايا ابتكارات الناتو في مجال الحرب المعرفية في أبريل 2020، طوروا وطبقوا خطة دعاية لمواجهة وباء COVID-19 حيث رأى القادة العسكريون الكنديون في وباء COVID-19 فرصة فريدة لاختبار تقنيات الدعاية على الجمهور، وفقاً لتقرير صدر حديثاً للقوات المسلحة الكندية.
ولم تطلب الحكومة الكندية للقيام بهذه المهمة ولم يصرح مجلس الوزراء بالمبادرة التي تم تطويرها أثناء وباء COVID-19 من قبل قيادة العمليات المشتركة الكندية لكن القادة العسكريين اعتقدوا أنهم لا يحتاجون إلى الحصول على موافقة من السلطات العليا لتطوير خطتهم وتنفيذها.
اعتمدت الخطة التي وضعتها قيادة العمليات المشتركة الكندية، على تقنيات دعاية مشابهة للمستخدمة خلال حرب أفغانستان، حيث دعت الحملة إلى تشكيل المعلومات واستغلالها، وقد زعم مركز العمليات المشتركة أن مخطط العمليات المعلوماتية كان ضرورياً لتفادي العصيان المدني من قبل الكنديين أثناء وباء الفيروس التاجي ولتعزيز الرسائل الحكومية حول الوباء.
تجسد الحرب الإدراكية فكرة القتال بدون قتال، ويشكل إتقان المجال المعرفي مجالات رئيسية جديدة لا غنى عنها لصناعة القوة القتالية الحديثة.
فالحروب المعرفية فضاء جديد للمنافسة يتجاوز الحروب البرية والبحرية والجوية والسيبرانية وتحشد الحروب في المجال المعرفي (والعقل البشري) مجموعة متنوعة وواسعة من الاستراتيجيات والأدوات والتقنيات جوهرها الأساسي هو السيطرة على الأماكن والجماعات والوحدات والمنظمات والأمم، من خلال استهدافها والتأثير على أدمغة أفرادها، المدنيين والعسكريين على حد سواء.
وأخيراً.. فمن المقرر عقد مؤتمر شبكة الابتكار التابعة لحلف الناتو في 9 نوفمبر/تشرين التاني 2021، كما سيعقد مؤتمر آخر للناتو للابتكار في أونتاريو في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، مما يؤكد اهتمام دول حلف الناتو بالتطورات في مجال الحروب المعرفية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.