أمشي في طرقات المستشفى، الأطفال ممددون على ظهورهم طوال الوقت، وكذلك أمهاتهم، رائحة طعام المستشفى الكريه تنبعث من كل الغرفات، وتعبق بها الطرقة الطويلة، يا ربّ لا أطيق هذا المكان كـ(طبيب) فكيف بالمرضى!
أصل للغرفة العاشرة، أستأذن قبل أن أدخل، لم أرَ أحداً يفعل، لم يطلب مني أحد أن أفعل، لكنني أطرق الباب المفتوح وأقف بعيداً، الأمهات ممددات على ظهورهن وجنوبهنّ، بالكاد ينتبهن لما يجري حولهن، إطالة المكوث في هذا المكان تصيب بالبلادة، أقول لنفسي.
أنتظر حتى تأذن لي إحداهنّ بالدخول بعد أن تنبه الأخريات فيعتدلن في جلستهن أو يُرجعن أثداءهن إلى أماكنها ويقطعن الرِضاع. أعتذر للأم التي سـ(أشكشك) طفلها الرضيع للمرة الرابعة في أربع ساعات، حتى أتابع مستوى السكر العشوائي في الدم. "هو عاد فيه مكان للشكشكة يا دكتور!" وتضحك وهي تبسط يده، أعتذر لها مرة أخرى، وأخرج.
رائحة الطعام تخنقني، أريد أن أتقيأ، لكني لا أفعل، وأقطع الطرقة في حركة سريعة.
اليوم الجمعة، فيه ساعة إجابة، لا إجازة من المرض، ولا الدعاء أيضاً. غرف المرضى عن يميني، أرى طفلاً يقف في شباك الغرفة، الشباك زجاجي، لكنه يلتصق بجسمه على زجاج هذا الشباك، ويفرد ذراعيه كعصفورٍ يريد الطيران، وأمه تصلي وترفع يديها للسماء، لا تلتقط أذني من دعائها إلا: يا رب..! وأخمّن الباقي وأنا متأكد من صحته.
أعود لغرفة الدرس، حيث يقضي الأطباء المتعبون طوال اليوم لحظات راحتهم المحدودة، أرتِّب القياسات التي حصّلتها قبل قليل: ضغط دم، درجة حرارة، سكر عشوائي، حُقن الكالسيوم التي تُعلِّم الصبر أكثر من ملء زجاجة من الفلتر، و… أمهات، وأطفال في كل مكان.
أكره هذا المكان بقدر ما أشعر بأهميته، أكرهه بقدر ما أتمنى أن يتم استنساخه في أسرع وقت وفي كل مدينة، أكرهه بقدر ما يحتاج إليه الناس، وأحتاجه لأشعر أن جزءاً من قلب العالم لم يمت.
يقف أمامي هيكل عظمي في صورة طفل شاحب، جلد على عظم، أمه تودِّع الطبيبة المقيمة، وهو.. على قلقٍ كأن الريح تحته!
"اللي خلاك استنيت ٣ شهور، مجاتش على دقيقتين!" تقول أمُّه، ولا يهتم. يمضي في طريقه إلى السلم، المسافة ليست بعيدة، طابق واحد فقط، لكنه هزيل جداً، آهٍ لو كان بإمكاني أن أعطيك أيها أيها الطفل الصغير بعضًا من لحمي وشحمي لتكون أكثر استواءً!
"يا عمّ تعالَ بس، رايح فين!" أمازحه، ويرد عليّ المزحة: "عايز أروّح بقى.. أخيراً هروّح!". وأمه تراقب هذا الحوار وتبتسم بعينين مغرورقتين بالدموع، أسألها: "بقاله هنا ٣ شهور كاملين!" فتجيبني "نعم"، وهذا أول يوم سيرى فيه الشارع منذ ٣ شهور، منذ ٩٠ يوماً، منذ أكثر من ٢١٠٠ ساعة، يا صبر أيوب!
حين أبقى في هذا المكان لأكثر من ١٢ ساعة؛ فإنني أشعر أن بيني وبين الجنون شعرة لا تُرى، وأنا الطبيب الذي يذهب ويجيء ويخرج ويتسكع ويأكل ما يشتهي، ويتصفح هاتفه، ويكتب، ويقضّي واجبات متنوعة، ويجلس في صمت، ولا (يشكشكه) أحد، ولا يوقظه من نومه ليقيس مؤشراته الحيوية، كيف قضيت ٣ شهور هنا، أيها البطل الرائع؟!
ألمحه وهو يهبط الدرج، بصعوبة، وإقبال من يخرج من القبر للحياة مبعوثاً من جديد، لا ينتظر الأسانسير ولا يطيق صبراً على أن يعبّ هواء الشارع والعالم كله في صدره.
ألوّح له ويلوّح لي، أقول لأمه: "حمداً لله ع السلامة، يا رب ما نشوفكم هنا تاني".
"يا رب يا دكتور والله…يا رب".
أركب الأسانسير، وأطلب من العامل الشاب الصعيدي أن يصعد بي..
– لفين يا دكتور؟
– لحتّة مفيهاش أطفال عيانين.
– كده هنطلعه عند ربنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.