من الأشياء الغريبة التي تحدث معي عادةً أنني أحياناً، لسبب أجهله، تخطر ببالي جملة ما من أغنية ما وتظل "معششة" في دماغي حتى أنام، لكن أمس حدث هذا -ربما للمرة الأولى- مع آية قرآنية من سورة الزمر، سمعتها بصوت الشيخ الشريم وأنا في مترو بروكسل. وطوال الوقت وأنا أرددها في سري، ويبدو أنني لن أتخلص من هذه الحالة إلا بالكتابة عنها!
والجميل أن المقرئ قرأ تلك الآية في نفس واحد: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ…" (سورة الزمر، آية 23).
وهذه الآية تحديداً من أحب الآيات القرآنية إلى قلبي، ودائماً ما أفاجأ بها كأني أسمعها للمرة الأولى، ربما بسبب ما أكتشفه فيها كل مرة، وجمالها الغريب يعود بداية لنظمها الذي يحدد طريقة قراءتها، ثم لمعانيها التي تحتاج كتاباً لشرحها.
وأنا لا أذكر آية أخرى وَصَف القرآن فيها نفسه بمثل هذا الاكتمال، لأنه جمع فيها كل شيء متصل به من أول مصدره (الله) وكيفية نزوله (نَزَّلَ)، والكلمة بهذا التركيب شيء مذهل حقيقةً، لأنها بهذا التشديد لا تقول فقط إن القرآن وحي منزل، ولكن تقول أيضاً إنه نزل مراراً وتكراراً، أي منجماً كما يقال.
ثم وصف القرآن نفسه بكونه (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، وأفعل التفضيل تعني أنه الأحسن على الإطلاق ودون استثناء. ويقال إن الصحابة رضوان الله عليهم اشتاقوا لحديث النبي وقالوا له: "يا رسول الله لو حدثتنا". فنزلت هذه الآية لتقول إن القرآن أفضل من حديث النبي نفسه، ولهذا السبب وصف القرآن نفسه ليُدلل على ذلك، وقد تكون هذه هي المرة الوحيدة التي يميز فيها القرآن نفسه عن الحديث النبوي بهذا الوضوح.
وهنا لا بد وأن تلاحظ إشارة الآية إلى السمة الشفاهية للقرآن بأنه (حديث)، وتقديمها على صفته الكتابية (كِتَاباً)، فالقرآن يُتعبد بقراءته وينقل شفاهة، وهذه هي الوسيلة الرئيسية لنقله من جيل لجيل، أما الكتابة فوسيلة مساعدة أو فرعية؛ لأنها لم تكن متطورة آنذاك، فلم تكن تعبر عن الحركات الممدودة، كما كانت خالية من الإعجام وتحتاج لأشياء أخرى حدثت فيما بعد.
ولذا فمن المضحك بالنسبة لي أن يعلق أي مستشرق أو باحث على مخطوطة قرآنية ما بأن كتابتها تخالف المصحف في شيء ما، ويظن أن في هذا مشكلة للنص القرآني نفسه، ويغيب عنه أن هذا عجز من الخط أو خطأ من الناسخ، وأن المخطوطة لم تكن قط الوسيلة الأولى لنقل القرآن، بل ولن تكون أيضاً، ببساطة لأنه (قرآن) قبل أن يكون (مصحفاً).
وكلمة (مُتَشَابِهاً) هنا لا تعني المتشابه منه، ولكن تعني أن القرآن يشبه نفسه فقط من حيث النظم والتركيب، أي من حيث بصمته اللغوية الخاصة به، التي لا يشبهها شيء ولا تتكرر فيما سواه، حتى لو كان حديثاً نبوياً.
أما كلمة (مَثَانِيَ) فتعني موضوعاته المثناة التي تتراوح بين ثنائيات "الترغيب والترهيب"، و"الوعد والوعيد"، و"الجنة والنار"، و"الخير والشر"، و"الذكر والأنثي"… إلخ.
وبعد أن أمعنت الآية في وصف القرآن ومكوناته ونظمه الداخلي، انتقلت لوصف أثره الخارجي فيمن يتلقاه. والجميل أنها تقول (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فهي تحدد نوعية المتلقين وما يحدث لهم من اقشعرار للجلود كلما استمعوا له، وهذا ما يحدث لي في الغالب بالفعل، فرغم أنني لست رجلاً طقوسياً، دائم المواظبة، إلا أنني أخشى الله لدرجة قد تفسد عليّ كل متعة، ولذا تجدني دائم الندم حتى على اللمم!
وعلى العموم كانت تجربة نهارية جميلة استغرقتني فيها آية واحدة فقط، وقد ذكّرني هذا بقول عثمان بن عفان، أو عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يُقرئهم العشر آيات فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، قال: "فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً"، فاللهم ارزقنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.