اقتل تحيزاتك الشخصية ولا تعترف بكل الآراء.. كيف تكوّن وجهة نظر سليمة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/04 الساعة 10:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/04 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش

مؤخراً واجه العالم تحديات كبرى، كانت خير برهان على الدور الحاسم للآراء والمعلومات الموثوقة والمتحقق منها والمتاحة في إنقاذ الأرواح، وبناء مجتمع قوي صلب، وكيف أن غياب الآراء العلمية الموثوقة أو تعذر الوصول إليها أدى إلى تصاعد الشائعات والأكاذيب والآراء المتطرفة لسد الفجوة تلقائياً. 

الضغط النفسي وعدم وجود متنفس سياسي أو اجتماعي جعل المنصات الإلكترونية تنفجر بآراء أكثر مما نستطيع عدّه أو نقده حول كل شيء، ومن اللافت أنه وسط هذا الغثاء من الآراء يبدو كأن أحداً لا يهتم بتنقيح رأيه، كل سيجد فرصة متساوية للانتشار، فأصبح الاهتمام بفن الرد لا منطقه وبـ"قصف الجبهة" قبل كل شيء.

الأهم نشوة الانتصار لا التعلم، تحولت الآراء لأداة لإثبات موقف لا إضفاء قيمة، يحجمك خوفك من المُساءلة لا المسؤولية، فإن كنت في مأمن من المساءلة القانونية أو الملاحقة الأمنية فاهذِ بما تشاء، مهما كنت ضالاً أو مضلاً لا تخَفْ دركاً ولا تخشَ، ستتمكن من التملص كالشعرة من عجين، فأرائك الخاطئة أياً كانت تبعاتها تخبو بالجملة السحرية "هذا مجرد رأي". 

ليس مجرد رأي

هناك ذلك التعميم الخاطئ، باعتبار الآراء تعبر فقط عن المفضلات والأذواق، وتعتمد كلياً على الغريزة أو الحدس، متجاهلاً حقيقة أن معظم الآراء تحتاج لقدر كبير من التحقق، وأن تعتمد أساساً على الحجج العقلانية والمعارف العلمية والتاريخية والسياسية.

إذا كان من السخف أن أطلب منك حجة عقلانية لتفضيلك مثلجات المانجو عن الفراولة، فإنه من الأسخف أن تتعامل مع آراء من النوع الثاني على نفس المحمل. استخدام عبارة "إنه مجرد رأي" هو حق يراد به باطل، فإما أنك تستخدمها لتختم بها أي هراء خلا من أي دليل لإنهاء النقاش، وتقليل من موقف المعارضين، بأن تعتبرها مسألة من مسائل الذوق ولا نزاع في الذوق، وإما أن معتقدك يختلف بشدة عن معتقدات الآخرين، فتستنتج أن ما بخلدك ما هو إلا مجرد رأي، وهو ليس بأحسن من الآخرين، وهو رغم كونه تواضعاً قلما تجده الآن، فهو سيئ الأثر؛ إذ يجعلك تحجم عن مناصرة قناعاتك، خشية أن تكون مجرد آراء.

الآراء ليست سواء

جادل السوفسطائيون بأن كل الآراء جيدة على حد سواء، وحجتهم داحضة تماماً في هذا الأمر، فمن المؤكد أن بعض الآراء مدروسة وملمة ومتماسكة، ومبنية على علم، وهي قطعاً أهم من آراء، كون أصحابها في فقاعتهم الخاصة، أو على أقل تقدير غير ذات قيمة، وقد تصل لكونها خاطئة ومضللة، لذلك السؤال هنا هو: كيف تُميز الرأي الجيد، وكيف تبني رأيك؟

مقدمات صحيحة ومنطق سليم

أولاً عليك أن تدرك قدرة الرأي على الانتشار، وألا تعطيه صلاحية أكبر مما يحتمل، فسُلطة الرأي تأتي من منطقه، لا من شهرة ناطقه، وذلك المنطق يعتمد على المقدمات؛ إذ إن المقدمات الخاطئة لا تؤدي لنتائج صحيحة، وقد تأتي هذه المقدمات الخاطئة إما من معلومات منقوصة أو مغلوطة عمداً أو سهواً. 

قد تعتقد أن الواقعين في مشكلة المعلومات الخاطئة هم فئة غير متعلمة مثلاً، ولكن الأكثر وقوعاً والأخطر هم فئة أُطلق عليها "الأُميون الجدد"، رغم سيطرتهم -على جهلهم الأوّلي بالقراءة والكتابة- فإنهم يعيشون في شكل مختلف من تخمة الجهل. فتلك الفئة لا تقرأ الكتب، ولكن تفتتن بتكاثرها كوسيلة للوجاهة الاجتماعية، وإذا قرأوا يعفون أنفسهم من مشقة العناء كقراء، ويهرعون إلى الأعمال الضعيفة بشراهة، يكتفون بما يُلقى إليهم من فتات المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويثقون ثقة كاملة في عناوين الصحف، ويعتبرونها عنواناً للحقيقة.
يروّجون لفكرة مشوهة عن القراءة، يتغزلون بلذتها التي تعادل الشيكولاتة، وهي ربما كذلك فقط في حالة الروايات، وفقط البسيطة منها، (وهي بديل جيد للتسلية وملء الفراغ)، ويتغافلون عن حقيقة أن القراءة من أجل فهم أوسع للعالم، صعبة ومجهدة ومملة، وتحتاج بذل الوقت والصبر، وأن القراءة في حد ذاتها ليست غاية، وإنما فرصة عظيمة للتحرر لتنمية الحس النقدي والتأمل، تحجمك عن الانبهار السريع بأي فكرة، وتُدربك على إعطاء الفرصة لعقلك، ليعتمد دائماً على آليات التفكير النقدي والفلسفي، كالشك والنقد في "فلترة" كل ما يدخله، متسلحاً بالقوة والشجاعة الفكرية، ليتساءل دائماً قبل أن يقبل أي معلومة: ما مصدرها، وما مدى مصداقيتها، فالكل لديه القوة أن يكون واعياً وعلى دراية فقط بالجهد الذكي والصبر.

 الجهل في ظل المتوافر الآن من كتب ومقالات ووثائقيات ودورات تدريبية موثوقة عالية الجودة هو محض اختيار.

اقتل تحيزاتك 

ربما صادفت من قبل أشخاصاً لا يمكن التشكيك بأي صورة في رجاحة عقولهم (منطق سليم)، ولا سعة ثقافتهم (مقدمات صحيحة)، أو نزاهتهم قبل كل شيء، رغم ذلك تفاجئك آراء معطوبة، لتتركك في حيرة من أمرك ماذا حل بهؤلاء!

إنها التحيزات الفكرية، التي ما خالطت رأياً إلا شانته، تذرّ في عينك رماداً في كل مرة ترى فيها مالا تتوقعه أو ما لا تريده. لذلك من غير الدقيق القول بأن مختلف الناس لديهم مواقف مختلفة من نفس الشيء، ببساطة الشيء ليس هو نفسه بالنسبة لمختلف الناس، سواء كرة القدم، مرشح الرئاسة، الشيوعية، أو حتى السبانخ!

ليس الغرض أن تحجم عن إبداء رأيك أبداً، ولكن لتعلم أن التدخلات غير المستنيرة تُربك المشهد مهما كانت حسنة النية.

تصوراتنا تتأثر بما نتوقع ونريد رؤيته بما ننتبه إليه، ليس ما هو موجود فعلاً، ولا أحد بمفازة من الوقوع في التحيز الأشهر "تحيز التأكيد"، أو "confirmation bias"، حيث ينتقي الناس الأدلة التي توافق مفاهيمهم المسبقة، أو توقعاتهم الحالية، ويعطون لها وزناً أكبر من تلك الأدلة المضادة التي تعارضها، وهو التحيز الذي غالباً ما تتعرض له أثناء تصفحك لوسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ إنها لا تُعنى البتة بتثقيفك، فخوارزمياتها تهتم ببقائك لمدة أطول، فتعرض عليك المنشورات التي تناسب اهتمامك، وتوافق نظرتك، لتلتقي فقط من يماثلونك في الرأي، لتكوّن ما يُشبه مجتمعاً من متماثلي التفكير، لا يستطيع رصاص الآراء المضادة اختراق قناعاته، وتجعلك غافلاً تماماً عن الجانب الآخر، كأنه لم يوجد قط.

وهناك "تحيز القصة" أو "story bias"، وهو ما تعتمد عليه وسائل الإعلام بشكل كبير، فعندما تكون القصة جيدة الحبكة فإن عقلك سيكون أكثر تقبلاً وتذكراً لتفاصيلها، بل إنه يُسقط عمداً الحقائق التي لا تتناسب مع القصة. لذلك فمن بين مرتكزات الإقناع التي ذكرها سقراط "الأسلوب القصصي"، الذي غالباً ما يلقى نجاحاً فائقاً مع العامة، متغلباً على زميليه "العقلانية" و"المصداقية". وكثيراً ما يعتمد عليه لتغيير الوعي الجمعي، خصوصاً إذا كانت الشريحة المستهدفة كبيرة.

هذا غيض من فيض التحيزات التي تشوه إدراكك، ولكي تتغلب عليها عليك أن تأخذ تحيزاتك على محمل الجد، لتعرف ما الذي شكّلها؟ من أين أتت؟ من تربيتك أم إيمانك أم تصوراتك السياسية؟ ومن أين تتلقى معلوماتك حول العلم؟ طوّر مصادرك باستمرار، وتأكد من تنوعها وتحيزات من يقدمها.

أخيراً

ليس الغرض أن تحجم عن إبداء رأيك أبداً، ولكن لتعلم أن التدخلات غير المستنيرة تُربك المشهد مهما كانت حسنة النية.

لذا في كل مرة تشعر وكأنك مجبر على اتخاذ موقف فوري نحو المناطق الفكرية الخلافية تشجَّع ومارِس قدراً من العدالة الفكرية والقيمة الأخلاقية تُمكنك من الاعتراف بجهلك بموضوع النقاش إذا كان هذا هو الحال.
وانطلق لتطور قدراتك متغلباً على معوقاتك، سواء كانت جهلاً معرفياً أو تقاعساً أو ضعف شخصية، ثم تحمّل مسؤولية رأيك في التحقق منه قدر ما استطعت، والاعتراف بالخطأ إذا فيه سقطت، رأيك مهم فأعطِه الاهتمامَ الذي يستحقه. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أميرة مفيد
طبيبة أسنان مصرية
تحميل المزيد