في الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021م صحا السودانيون على أصوات الأغاني الوطنية منقولةً على محطات الإذاعات السودانية المختلفة والتلفاز، تلا ما بعدها بيان للجيش السوداني تناول في مقدمته حالة الاحتقان السياسي دون تفصيل، وبموجب دستور القوات المسلحة تم إعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة وإعفاء ولاة الولايات وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين، مما بات هنالك مشهداً قاتماً للمشهد السياسي فى الساحة السودانية للفترة الانتقالية، وغير واضح ما بين إبانة الخطوة التي اتخذها الجيش أهي "تصحيح مسار الثورة أم انقلاب"، وما بين انقسام للشارع ما بين "رافضين للمسار الذي اتخذه الجيش السوداني، ومؤيدين للخطوة" بُعَيد إعلان بيان الجيش السوداني.
ساد ما قبل الخامس والعشرين من أكتوبر حالة من الاحتقان السياسي بين "المدنيين والعساكر من جانب، وبين المدنيين الحاكمين لمؤسسات الفترة الانتقالية والأحزاب الرافضة للقوى المدنية بما تسمى قوى إعلان قوى الحرية والتغيير من جانب آخر"، وقد بلغ الاحتقان مداه دون أن يلوح حل بالأفق يرتضيه جميع أطراف العملية السياسية من جهة والجيش من جهة أخرى باعتباره شريكاً في عملية التغيير في ثورة ديسمبر/كانون الأول التي دعت إلى إرساء مبادئ تحقيق الحرية والسلام والعدالة، إلا أن قوى الحرية والتغيير قد اختطفت المشهد السياسي بالسودان، حيث فشلت في إدارة ملفات الانتقال، وهو ما يعزز بما جاءت به ثورة ديسمبر.
عامان ونيف من تشكيل حكومة الفترة الانتقالية "الأولى والثانية" وظل الصراع السياسي بين مكونات الحرية والتغيير نفسها، والذي دفع بعض مكونات الحرية والتغيير لتجميد عضويتهم والآخر للخروج من تحالف إعلان قوى الحرية والتغيير نسبةً لاختلاف المرجعيات والمواقف ومكاسب اقتسام السلطة والثروة إبان الفترة الانتقالية، لاختلاف المواقف بين المدنيين.
اختلال المسار "الاتجاه" الانتقالي
منذ الوهلة الأولى لحكومة الفترة الانتقالية لم تكن هنالك مؤشرات واضحة على أن يكون هناك حل وانفراج لإحداث استقرار سياسي وتبنيها برنامجاً للإصلاح الاقتصادي، واهتمامها بمعاش الناس وتوفير المناخ المناسب كي يساهم في رتق النسيج الاجتماعي وتقوية اللُّحمة الوطنية، كل ذلك لم تضعه في أولوياتها حكومة الفترة الانتقالية التي انتهى المآل بها لانشغالها بالنشاط الحزبي لها الذي يبعد عن قضايا معاش الناس واستقرارهم، وتعزيز معاول البناء والتمكين الذي تبنته في المؤسسات المختلفة دون أي مسوغ قانوني، وهو ما لفت أنظار المراقبين للأوضاع بالداخل بأنه يفضي إلى عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي بالسودان.
وهذا ما شهدته ملامح ما قبل الخامس والعشرين من أكتوبر باعتصام في ساحة القصر الجمهوري يرفض بقاء المجموعة المتبقية من تحالف إعلان قوى الحرية والتغيير، وسُميت بمجموعة "الأربعة" التي أضاعت هوية ثورة ديسمبر، وعمدت إلى تبديد قيم البناء بممارساتها وتعاطيها مع القضايا الحادثة.
فالتحالف الذي أفضى لشراكة المدنيين والعساكر، والذي تمخض عنه اتفاق الوثيقة الدستورية منذ البداية، كان تحالفاً "ظرفياً"، حيث اقتضت الظروف السياسية أن يكون هنالك اتفاق شراكة، وكانت حينها الموازين السياسية غير ثابتة بين الشركاء، ولكن كان يعلم الطرفان أنه حال استعادة كل طرف توازناته وكسب مؤيدين جدد من الساحة السياسية والجماعات الفاعلة بالقضايا العمومية سيحدث تغيير مفصلي على مجمل الاتفاق.
وكان للإدارات الأهلية والطرق "الصوفية" دور فاعل في الساحة السياسية، وبالرغم من توجيه أيادي الاتهام لها بتبعيتها للنظام السابق "الإنقاذيون"، فإن الإدارات الأهلية ظلت ما قبل الاستقلال وإلى اليوم مكونات تتبع للمجموعة الحاكمة، بحيث لم تلعب دور المجموعة المعارضة للمجموعة الحاكمة منذ الاستقلال إلا في هذه الفترة الانتقالية، فالروابط الاجتماعية "الإدارات الأهلية" في تعاطيها مع العملية السياسية ذات تأثير بالغ يفوق تأثير الرابط العضوي للأحزاب، وهذه المعادلة لم تستوعبها الأحزاب التي حاولت الانقضاض على الثورة.
برزت لجنة إزالة التمكين لكشف ملفات الفساد ومن تحوم حولهم أي شبهات تتعلق بالفساد في مؤسسات الدولة المختلفة، وتضم لجنة إزالة التمكين في عضويتها خمسة أعضاء يتبعون قوى إعلان الحرية والتغيير، ويترأسها عضوان من مجلس السيادة -رئيس ومناوب له وممثلون من قطاعات مختلفة- لمساعدة اللجنة في عملها لتفكيك منظومة الثلاثين من يونيو/حزيران 1989 "الإنقاذيون"، وبالرغم من أن هناك تأييداً لعمل اللجنة في بداياته فإنه كنتاج لعملها غير الممنهج وتدخلها في توجيه قرار مؤسسات الفترة الانتقالية أفقدها الحياد، فهي لجنة لم تتم إجازة قانونها من مشروع قانوني، وعمدت إلى التغول واحتكار جميع السلطات التشريعية والتنفيذية من اعتقالات وفصل تعسفي ومصادرات وغيرها من الإجراءات التي اتخذتها اللجنة، قادت بتراخٍ عمل القطاع العام وما لازمه من انعكاسات سالبة على مجمل الأوضاع الاقتصادية والخدمية.
تعمَّد التحالف الممسك بمؤسسات الفترة الانتقالية تعطيل عمل المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وكل الإجراءات المتعلقة بعمل القضاء وتراتبياته، مما وضع السودانيين أمام نظام شمولي جديد يريد أن يفرض مواقفه دون سند قانوني، وبالتالي ساهم بصورة مباشرة في تراجع مؤسسات الفترة الانتقالية عن القيام بواجباتها بصورة كاملة ومكملة، مما يعكس حالة رضا شعبوي تجاه الاهتمام بقضاياه وثورته.
تركيبة المعادلة السياسية: تصحيح مسار أم انقلاب؟
إن الانقلابات العسكرية تنقلب على الأنظمة الديمقراطية "الشرعية"، إلا أن الفترة الانتقالية ما هي إلا حالة ظرفية لتسيير مهام الانتقال وتهيئة المُناخ لإجراء انتخابات والتحول إلى الديمقراطية عن طريقها، فالتعقيدات التي يشهدها المشهد السياسي بالسودان لا تنم بوجود صيغة حكم أو "نظام حكم" تنعكس على أقل تقدير في استقرار بيئة مؤسسات الفترة الانتقالية، فكل المؤشرات من تعنيف الخطاب السياسي والتراشقات وحالة الفوضى في اجتراح الخطاب السياسي وأشكاله تشير إلى أن هذا التحالف الظرفي يمضي إلى نهاياته، ولكن عن طريق معادلة معقدة بذات تعقيدات الأوضاع بالسودان، مما قاد الجيش إلى تجميد منطوق المواد المتعلقة بالشراكة مع المدنيين في الوثيقة الدستورية، وقفل الباب أمام الأحزاب السياسية في المشاركة بما تبقى من الفترة الانتقالية.
ولضمان حياد هذه الفترة دون إشراك أجسام سياسية تعمل بدورها على توجيه مسار الانتقال بأن يخدم أجندتها، يقول عزمي بشارة، في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" في قراءاته لمشهد الثورة السودانية "ديسمبر"، وإن كانت هنالك أجندة لأحد بالحكم، فيقول: "بدأ السودان فعلياً عملية انتقال رسمية مُتفقاً عليها، يصعب التنبؤ بنتائجها حالياً، نتيجة لعدم وضوح نيّات الجيش، وهو طرف في الاتفاق، ومدى التزام القوى المسيطرة عليه بالانتقال إلى نظام ديمقراطي، وبسبب تأثير دول إقليمية متخوفة من الديمقراطية ومناهِضة لها، ولأن الاتفاق على المرحلة الانتقالية أقصى قوى سياسية مهمة".
فالآن ما تشير إليه راهنية المواقف والأحداث على أقل تقدير أن الجيش صحيح قطع الطريق أمام قوى متشنجة سياسياً، تريد الانقضاض على الديمقراطية، إلا أن نيته باتت واضحة في تعزيز موقفه ورسم خارطة الطريق، للانتقال إلى الديمقراطية له أو عن طريق تحالفات جديدة، تتشكل خلال ما تبقّى من الفترة الانتقالية.
تلت خطوة التحول التي قام بها الجيش العديد من المواقف من قوى إقليمية ودولية، ما بين واصفة لها بأنها تصحيح لمجريات الأحداث بالسودان، ومن يصفها بأنها انقلاب، فمن خلال أدبيات الممارسة السياسية، فإن النموذج الراهن بالسودان لا يمكن أن نوصفه بالانقلاب.
فالشركاء الدوليون بالسودان المسؤولون عن مراقبة الانتقال لم يُبدوا مواقف امتعاض، بل أشاروا إلى استمرار دعم التحول الديمقراطي، بخلاف موقف الاتحاد الإفريقي، الذى رمى إلى تعليق عضوية السودان بالبنك والصندوق الدوليين، وحياد روسيا والصين في مجلس الأمن، للتدخل في الشأن، واصفاً الخطوة بأنها شأن داخلي، يخص أطراف العملية السياسية بالسودان.
مشهد ضبابي للفترة الانتقالية
رسمت قوى إعلان الحرية والتغيير على مدى عامين ونصف العام بتجربتها غير الراشدة، وتعاطيها مع العملية السياسية إبان الفترة الانتقالية، صورةً قاتمة وشاحبة لمحاولة إحداث أي تقدم واضح، بالمُضى قدماً بمنظور إيجابي نحو إصلاح اقتصادي، مدخله استغلال الموارد الوطنية، بحيث ينعكس على الأوضاع المعيشية بالبلاد، والتعاطي بصورة مرنة مع القوى السياسية، والاتفاق والتوافق على أقل تقدير على تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، إلا أنها لم تستطع ترجمة ما يدور في مُخيلة الشارع السوداني، بالعبور بالبلاد، وتهيئتها لأن تلعب دورها في المناحي المختلفة.
تركت قوى إعلان الحرية والتغيير صورة ذهنية سلبية في أعين الحالمين بسودان الحرية والسلام والعدالة، بتحقيق مؤشرات إيجابية في الحياة المعيشية للمواطن السوداني، إلا أن صراع هذه القوى فيما بينها، وفقدها الرؤية، وما تعانيه من أزمة نضج في ممارساتها جعلها وصمة سالبة كقوى تصدرت المشهد السياسي.
وقد كان لضعف الأحزاب السياسية التي اعتلت قيادة مؤسسات الفترة الانتقالية في السودان، عقب ثورة ديسمبر، دور في وصولنا لهذا المشهد، حيث فرضت واقعاً لا يتماشى مع البيئة السياسية والاجتماعية السودانية، وهي أحزاب ليست لديها تجارب سياسية ومبادرات وطنية تضاف إلى سجلاتها، ويمكن توصيف هذه المجموعة بأنها مجموعات دخيلة على الممارسة السياسية، وتتعاطى بصورة متشنجة مع القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لقد عانى المواطن السوداني جراء السياسات الاقتصادية المتبعة من زمن طويل بالسودان، وما زال يعاني جرّاء الوضع الذي زاد سوءاً وضنكاً، فهل ضاع حلم سودان الحرية والسلام، أم ما زال هناك أمل؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.