يتميز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في توظيف العلاقات الشخصية على الصعيد الدولي، بما في ذلك اللقاءات الثنائية مع الزعماء الأجانب، من أجل خدمة السياسة الخارجية التركية، إنه بارع للغاية في حل ملفات أو تغيير مسار ملفات أخرى، من خلال لقاء أو حتى اتصال هاتفي، وهناك من الأمثلة الكثير على ذلك.
وبغض النظر عما لو كانت هذه الصفة ميزة أم لا في مفهوم العلاقات الدولية بين الدول، لكن من المرجح أن قنوات التواصل المتنوعة تعطي فرصة أكبر لديمومة العلاقات واستمرارها بشكل سليم.
اللقاء الأخير بين الرئيس التركي أردوغان ونظيره الأمريكي بايدن، في العاصمة الإيطالية روما، الأحد الماضي، خلال قمة العشرين، كان من ضمن اللقاءات التي يخرج فيها الرئيس أردوغان منتصراً، أو لنقُل اللقاءات التي يخرج فيها وقد أعطى طابعاً إيجابياً.
لقد جرى اللقاء ضمن ظروف عصيبة، تطغى على العلاقات بين أنقرة وواشنطن، فنحن نتحدث عن أزمة استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات F-35، بسبب شرائها صواريخ S-400 الروسية، وغضب أنقرة من واشنطن بسبب استمرار دعم مقاتلي PYD/YPG، المصنفين ضمن قائمة الإرهاب في تركيا، فضلاً عن تهديدات أنقرة بشنّ عملية عسكرية ضدهم شمال شرقي سوريا، وتحذيرات واشنطن من ذلك.
قد جرى اللقاء أيضاً بعد أزمة دبلوماسية كادت أن تُحدث فجوة عميقة يصعب تجاوزها على صعيد العلاقات بين البلدين، وذلك إثر بيان سفراء عشر دول من ضمنهم السفير الأمريكي في تركيا، للمطالبة بإطلاق سراح رجل الأعمال التركي عثمان كافالا، ولولا تراجع هؤلاء السفراء عن بيانهم البعيد بالفعل عن اللباقة الدبلوماسية لحدثت بالفعل أزمة كبيرة، لا سيما أن أردوغان كان مصمماً على طردهم.
إلى جانب ذلك، نحن نتذكر أن الرئيس أردوغان قبل نحو شهر واحد فقط عبّر عن انزعاجه من مستوى العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، في ظل إدارة بايدن، بل قال إن بداية علاقته مع بايدن لم تكن جيدة.
وبطبيعة الحال، حينما ننظر لجميع هذه الملفات الشائكة والمرحلة المعقدة التي تمر بها العلاقات التركية-الأمريكية، فلا شك أن لقاء أردوغان وبايدن إذن كان مُهماً من ناحية، ومُعقّداً كذلك من جهة أخرى، بمعنى أن هناك رغبة في تجاوز هذه المرحلة، لكن في ظل صعوبة العثور على آليات على أرض الواقع تساعد على ذلك.
ملفات شائكة وخيارات صعبة
لا نبالغ بالقول إن التوقعات قبيل اللقاء كانت تشير إلى جوّ ضبابي، لا سيما مع تضارب التصريحات حول مكان وزمان انعقاده، فتارة قيل إن اللقاء سيكون في روما، وتارة قيل إنه سينعقد في غلاسكو خلال قمة المناخ، قبل أن يتقرر في النهاية انعقاده في روما، بسبب إعلان أردوغان عدم المشاركة بقمة غلاسكو.
استمر اللقاء نحو ساعة ونصف الساعة، في حين كانت بعض مصادر الإعلام تتوقع أن يستغرق اللقاء وقتاً أقصر من ذلك، وهذا بدوره يشير بطريقة ما إلى وجود رغبة في إيجاد صيغة حل بالفعل لتجاوز هذه الملفات، لا سيما ملف مقاتلات F-35 الأمريكية، والتي كانت بلا شك محور الحديث بين الجانبين، كما يشير في الوقت نفسه إلى أن الملفات كانت شائكة بالفعل.
حين النظر إلى ملف F-35 واستبعاد تركيا من هذا البرنامج بعد أن استثمرت فيه بنحو مليار ونصف المليار دولار، بحجة أنها اشترت منظومة دفاع جوية من روسيا، نجد أن لأنقرة حجة لا يستهان بها أيضاً، وهي أنها وجدت نفسها مضطرة لشراء هذه المنظومة من روسيا، بعد الرفض المتكرر من إدارة أوباما سابقاً، ضد شراء تركيا لمنظومة باتريوت الأمريكية.
لكن الجانب الأكثر تعقيداً هو تبعات قرار استبعاد تركيا من برنامج مقاتلات F-35، ومطالبة تركيا باسترجاع أموالها التي دفعتها في سبيل الاستثمار بهذا البرنامج، وسط معلومات تتحدث حول أن عقد الشراكة لا يضمن استرجاع كل الأموال، وبذلك يبدو العثور على مخرج يرضي الجانبين ليس بالأمر السهل، وهو ما انعكس من تصريحات البلدين قبيل اللقاء، وتركيز لقاء أردوغان مع بايدن على هذه المسألة.
طبعاً من المعلوم أن الجانب الأمريكي اقترح على الجانب التركي الحصول على هذه الأموال من خلال صفقة شراء مقاتلات من طراز F-16، وحينما التقى أردوغان مع بايدن تناول الزعيمان هذا الخيار بجدية، لا سيما أن أردوغان أعطى انطباعاً إيجابياً مسبقاً إزاء هذا الاحتمال.
لكن على صعيد آخر، لا ننسى أن الموافقة على هذا القرار مرتبطة بمصادقة مجلس الشيوخ الأمريكي "الكونغرس"، ومن المعلوم أن موقف الأخير من تركيا وسياساتها الخارجية ليس في حالة انسجام، مثل موقفه من الاعتراف بمزاعم "الإبادة الأرمنية" التي ترفضها تركيا.
ولذلك فإن هذا الخيار الذي يبدو مرضياً إلى حد كبير للطرفين، يعتبر أيضاً صعباً على أرض الواقع، وليس بهذه السهولة.
يريد الإطاحة بأردوغان وبناء علاقات جيدة مع تركيا!
على الجانب الآخر، علينا ألّا ننسى أن جو بايدن قبيل حملته الانتخابية صرح في لقاء مع نيويورك تايمز، حول عزمه الإطاحة بأردوغان من خلال التعاون مع المعارضة التركية، وعبّر عن رفضه لعمليات تركيا العسكرية شمال شرقي سوريا.
لا يزال هذا التصريح عالقاً في ذاكرة الرأي العام التركي، ومن الطريف قراءة تعليقات عبر مواقع التواصل في تركيا حول لقاء أردوغان وبايدن، من قبيل "أردوغان يلتقي زعيم المعارضة التركية"، في إشارة إلى بايدن.
إضافة لذلك، موقف بايدن غير المسبوق من قبل أي رئيس أمريكي تجاه مع ما يتعلق بمزاعم إبادة الأرمن، كان أيضاً انحرافاً كبيراً عن المسار التقليدي بين واشنطن وأنقرة الحليفتين، وكذلك عدم مهاتفة بايدن لأردوغان إلا بعد نحو 3 أشهر من تسمله الرئاسة، حيث هاتف أردوغان ليخبره بأنه عازم في الغد على الاعتراف بالإبادة الأرمنية، كان اتصالاً مستفزاً!
لكن مع أول لقاء بين أردوغان وبايدن خلال قمة حلف شمال الأطلسي "ناتو" في يونيو/حزيران الماضي، صدرت تصريحات متفائلة للغاية من كلا الجانبين، وتحدث بايدن عن لقاء إيجابي مع أردوغان.
والآن كذلك الأمر نجد تصريحات متفائلة، من قبيل تأكيد بايدن على رغبته في إقامة علاقات بناءة مع تركيا، وأن واشنطن تُثمن دور تركيا في حلف الناتو، وما شابه من تصريحات، توحي برغبة إلى حد ما بعدم التصعيد على الأقل.
من المهم الآن أن تستمر قنوات التواصل بين الجانبين، سواء على صعيد السلك العسكري أو الدبلوماسي، لا سيما أن أنقرة عازمة على شن عملية ضد المجموعات المسلحة المدعومة من واشنطن شمال شرقي سوريا، ولا شك أن التنسيق والتفاهم سيخفف من حدة التبعات على الأطراف المعنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.