لم يكن صباح فخري صاحب صوت يمكن أن تسمعه بأذنك فقط، لكن عليك أن تستخدم جميع حواسك حتى تستطيع أن تتذوق عذوبة وعظمة هذا الصوت، صباح كان لديه آلة زمن من نوع نادر جداً، يخبئها في حنجرته، لديها القدرة على أن تسافر بك إلى العصر الأموي لتشاهد مسكين الدارمي وهو يغني "قل للمليحة في الخمار الأسود" حتى يتمكن من بيع أقمشة صديقه التاجر، وهكذا يتنقل بك بين أزقة سوريا في قدوده الحلبية، ويصعد بك مئذنة حلب التاريخية التي اعتلاها هو مبكراً ليؤذن عليها قبل أن يذيع صيته في الطرب الأصيل.
بيت مترع بالألحان الصوفية
صباح فخري، أو كما كان يطلق عليه آنذاك "صبحي أبو قوس"، وفي رواية أخرى "صباح الدين أبو قوس"، والذي ولد في الثاني من مايو/أيار عام 1933 لأب حافظ للقرآن وأحكامه وتجويده، وأم تتقن أساليب الإنشاد الديني والشعر الصوفي، كانت نشأته في منزل يمتلئ بالذكر الطيب والألحان الصوفية، فلم يكن غريباً أن يحفظ القرآن الكريم ويتقن تجويده في سن مبكرة.
روى لي صباح في مقابلة جمعتني به قبل سبعة أعوام في القاهرة عن موقف في طفولته المبكرة، قبل أن يتعلم تهجي الكلمات حتى، وهو أنه كان هناك فرد في عائلته يتعمد أن يقرصه حتى يقوم بالاستماع إلى بكائه الذي كان يجد فيه عذوبة وطرباً!
وفي طفولته أيضاً، قام صباح فخري ولم يكن تجاوز عامه الرابع عشر بوضع أولى محاولاته في التلحين وكانت "يا رايحين لبيت الله، يا قاصد كعبة الإسلام" وقام بمساعدته فيها أستاذه المعلم الكبير عمر البطش، أما أول أدواره القديمة فكانت من ألحان فنان لم يحظَ بالشهرة، كان يعمل بائع أحذية اسمه "سري الطنبورجي" وكانت أغنية "أنا في سكرين" والتي اشتهرت بصوت الفنان صباح فخري إلى يومنا هذا وأصبحت من أشهر أدواره.
كان صباح في نشأته يجلس في مجالس الإنشاد والتجويد مع والدته وصديقاتها والتي كانت تسمى جلسات "الخوانم"، وكن يغنين أيضاً من الأغاني التي تشتهر بها مدينة حلب، فغنى صباح مواله الأول "غرد يا بلبل وسل الناس بتغريدك".
طفولة صباح فخري
ومن هنا أطرب صباح فخري وانتقل إلى المدينة الكبيرة ليستزيد من هذا البحر الكبير، فتعرف هناك على الفنان محمد رجب الذي علمه الموشحات والمقامات الموسيقية وتعرف أيضاً إلى عازف الكمان الكبير الفنان سامي الشوا، والذي رأى في صوته قدرة مذهلة، مما دفعه لتقديمه إلى الشاعر فخر الدين البارودي، وهو الذي غير اسمه من صبحي أبو قوس إلى صباح فخري في أحد اللقاءات الإذاعية مع صباح القباني، وهذا بعد أن ظل يحمل اسم "محمد صباح" الذي أطلقه عليه سامي الشوا، وفي عمر لم يتجاوز 12 سنة غنى صباح أمام رئيس الجمهورية السورية "شكري القوتلي".
ولم يكتفِ البارودي بذلك فقط، بل أعطاه الفرصة للدخول إلى الإذاعة السورية في العام 1947 وبمساعدة البارودي والشيخ المعلم عمر البطش قام صباح بأداء معظم أغاني التراث السورية في تلك الفترة.
لم يكتفِ بدراسة الموسيقى
التحق صباح فخري بمعهد الموسيقى بحلب وتعلم على أيدي كبار الموسيقيين في المعهد منهم مجدي العقيلي وعزيز غنام وعلي الدرويش، وحفظ المقامات الشرقية والغربية والنظريات الموسيقية والصولفيج الإيقاعي والغنائي ورقص السماح وأصول الأداء الشرقي.
ثم تابع دراسته في معهد الموسيقى في دمشق ليتخرج فيه عام 1948 على يد عميد المعهد فخري البارودي والذي بالفعل قد سماه صباح فخري على اسمه، ليصبح هذا الاسم هو الأشهر في الطرب الأصيل في جميع نواحي الوطن العربي وأبعد حتى من ذلك.
كان صباح فخري يفكر في هذا الوقت أنه يجب أن يتحصل على شهادة جامعية في مجال غير الموسيقى تحسباً لأي طارئ قد يحدث، وبالفعل عاد صباح إلى المعهد الإسلامي ودرس فيه لأربع سنوات وتخرج في العام 1952 ليباشر عمله في مهنة التدريس عام 1953.
هرمونات الرجولة تصيب حنجرة صباح فخري
انتقال صباح فخري من مرحلة الطفولة والصبا إلى الشباب أدى إلى تغير في طبيعة الصوت، ولكن هذا التغير أصاب صباح بالرعب، فتغيرت طبيعة صوت صباح وأصبح غير راضٍ عن صوته الذي بدا كالمبحوح، وأدى هذا التغيير إلى سوء حالته النفسية، وكلما حاول أن يغني شعر بأن هذا ليس صوته، فقرر حينها صباح -ولم يكن تخطى السابعة عشرة من عمره- أن يعتزل الغناء ويتفرغ للعمل في ريف حلب، لكن مع اكتمال رجولته واستقرار حنجرته عاد صوت صباح فخري أقوى وعاد صباح فخري ليتألق من جديد في أوساط الفن والطرب.
التلفزيون السوري
كان العام 1960 مهماً جداً في حياة صباح الفنية، فهو العام الذي تم فيه افتتاح التلفزيون العربي السوري، وأحيا الفنان صباح فخري حفل الافتتاح مع عدد كبير من الفنانين المشاركين، فذاع صيته أكثر وأصبح يتمتع بشعبية كبيرة جداً.
موسوعة غينيس
أحيا صباح فخري عشرات الحفلات في بلاد كثيرة في الدولة العربية وخارجها، ومنها حفل كراكاس الشهير في فنزويلا 1968 والذي قام صباح بالغناء فيه لعشر ساعات بشكل متواصل دون استراحة، الأمر الذي جعله يدخل موسوعة غينيس!
في حقيقة الأمر أنا أحسد حاضري هذا الحفل الذي شهدوا معجزة صوتية حية أمامهم تلك الليلة، عشر ساعات بهذا الصوت الذهبي دون أن يتأثر أو يضعف، بالتأكيد ستظل تلك الحفلة في ذاكرتهم إلى الأبد.
إسرائيل تحرق أسطواناته
يقول صباح فخري إن أغنية "حي على الجهاد" التي قدمها في 1967 قد أثارت ضجة كبيرة لدى الاحتلال الإسرائيلي، مما دفعهم إلى جمع جميع أشرطته وألبوماته وإحراقها لأنهم لا يريدون أي شيء يذكرهم بالجهاد.
الصبّوح على الشاشة
لم يتوقف صباح فخري عند عتبة الغناء، حيث عمل ممثلاً في بعض الأفلام منها فيلم "الوادي الكبير" مع الفنانة الراحلة وردة الجزائرية، وفيلم "الصعاليك" مع الفنانة القديرة مريم فخر الدين، كما شارك في عدد من المسلسلات التلفزيونية مثل مسلسل "نغم الأمس" وظهر في مسلسل دريد لحام "صح النوم" وقام بأداء أغنية "فوق النخل والبلبل ناغي".
الأوسمة والجوائز
شهادة تقديرية من محافظ مدينة لاس فيغاس في ولاية نيفادا مع مفتاح المدينة تقديراً لفنه وجهوده المبذولة لإغناء الحركة الفنية التراثية العربية.
قلد كذلك مفتاح مدينة ديترويت في ولاية ميشيغان ومفتاح مدينة ميامي في ولاية فلوريدا مع شهادة تقديرية.
أقامت له جامعة U.C.L.A حفل تكريم في قاعة رويس وقدمت له شهادات التقدير، لأنه حمل ولا زال لواء إحياء التراث الغنائي العربي الأصيل.
كما غنى في قاعة نوبل للسلام في السويد، وفي قاعة بيتهوفن في بون ألمانيا. وفي فرنسا غنى في قاعة قصر المؤتمرات بباريس، كما أقام عدّة حفلات على مسرح العالم العربي في باريس وعلى مسرح الأماندييه في نانتير.
قام بجولة فنية ثقافية في بريطانيا، حيث قدّم حفلات غنائية ومحاضرات عن الموسيقى والآلات العربية في كل من (لندن- يورك- كاردف- برمنغهام- شيستر فيلد- مانشستر- ديربي شاير- كوفينتوري).
أقام له الرئيس الحبيب بورقيبة حفل تكريم وقلده وسام تونس الثقافي عام 1975.
قدّم له جلالة السلطان قابوس وسام التكريم في 2000/2/5 تقديراً لعطاءاته وإسهاماته الفنية خلال نصف قرن من الزمن وجهوده وفضله في المحافظة على التراث الغنائي العربي.
نال الميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية بدمشق عام 1978.
نال جائزة الغناء العربي من دولة الإمارات العربية المتحدة باعتباره أحد أهم الروّاد الذين ما زالوا يعطون ويغنّون التراث الغنائي العربي الأصيل.
كرّمته وزارة السياحة المصرية بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية تقديراً لعطائه الفني الذي أثرى ساحة الغناء العربي الأصيل الذي سيظل زاداً لإسعاد الأجيال القادمة من عشاق الفن الراقي.
كرّمه مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في مصر وقدّمت له كتب الشكر لمشاركته ومساهمته لعدّة سنوات في المهرجانات التي أقيمت على مسرح دار الأوبرا الكبير ومسرح الجمهورية في القاهرة ومسرح قصر المؤتمرات في الإسكندرية.
من خلال مشاركته في مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة في دورته العاشرة لعام 2004 قدّم له رئيس جمعية فاس سايس شهادة تقدير وشكر والعضوية الفخرية لمجلس إدارة المهرجان إجلالاً لفنه وعرفاناً بجهوده للحفاظ على التراث الموسيقي الغنائي العربي، كما قدّم له محافظ مدينة فاس مفتاح المدينة مع شهادة تقدير وشكر والعضوية الفخرية لمجلس المدينة، وهذه هي أول مرة يمنح فيها مفتاح المدينة لفنان عربي أو أجنبي.
قدّمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في 2004/6/22 الجائزة التقديرية مع درع المنظمة ووثيقة الأسباب الموجبة لمنح الجائزة لحفاظه على الموسيقى العربية ونشرها.
في 12 فبراير/شباط 2007 قلّده بشّار الأسد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة في دمشق وذلك تقديراً لفنّه وجهده في الحفاظ على الفنّ العربي الأصيل ولرفعه راية استمراريّة التراث الفنّي العربي الأصيل.
تقديراً لفنه الراقي وأصالته أقيمت له في مصر عام 1997 جمعية فنية تضم محبيه ومريديه أُشهِرَت تحت رقم 1319 وهي أول جمعية رسمية من نوعها تقام لفنان غير مصري.
قدمت رسالة الأستاذية في العلوم الموسيقية الوحيدة في العالم والمنجزة في تونس حول المطرب السوري الكبير صباح فخري والموجودة بمكتبة المعهد العالي للموسيقى بتونس: – إلياس بودن، صباح فخري: مسيرته الفنيّة وإسهامه في تواصل وترسيخ التّراث الغنائي العربي وتحليل لنموذج من أعماله "قصيدة قل للمليحة في الخمار الأسود"، رسالة شهادة الأستاذية في الموسيقى والعلوم الموسيقية، تونس، المعهد العالي للموسيقى بتونس، تأطير د. محمد عبيد، 2004، 100 ص. مع ملاحظة حسن جداً مع شكر أعضاء اللجنة.
رحيل الفنان المخلص
في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، رحل عن عالمنا هذا الأسطورة، بعد أن ترك لنا أكثر من 400 أغنية بصوته وقد حاولت أصوات عديدة تقليد هذا الصوت، ولكن لم ينجح أحد في أن يصبح نسخة من صباح فخري، غير القابل للتكرار.
بقي صباح طوال عمره مخلصاً لفنه ولمدرسة الغناء الشرقي الأصيل التي لطالما أحبها وفضّلها على غيرها ولم يخجل في التصريح بأنه لا يُطرب سوى من الآلات الشرقية فقط، هذا الصبوح الذي كانت أصعب الموشحات والأدوار تخرج من حنجرته برقة ودون مجهود، يرحل صباح في هدوء كما كانت حياته تتسم بهذا الهدوء تاركاً وراءه كنزاً ضخماً لهذا الجيل والأجيال القادمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.