حكايتي مع الفتاة التي غيّرت فكرتي عن الجمال

عربي بوست
تم النشر: 2021/11/03 الساعة 11:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/11/03 الساعة 11:10 بتوقيت غرينتش

حُكي أمامي قبل أيام عن امرأة يحبها زوجها حباً شديداً وهي تهيم في عشقه، ويعيشان سوياً في سعادة وهناء، لكن شملهما تفرق وافترقا، بسبب أن أهل الزوج يعيرونها دائماً بسمار بشرتها؛ ذلك السمار الذي لا دخل لها فيه!

وقديماً سمعت إحداهن تقول لجارتها بصوت غير خافت: "إيه اللي عاجبه فيها؟ دي شبه الفحمة، لا شكل ولا لون!".

تلك المسكينة لا تدري أن الجمال جمال الروح والطبع، والحب والإعجاب والميل قد يأتي مدفوعاً بشيء مستقر في النفس غير معلوم، وإلا لماذا يرى كل أحد أمه حسناء حتى لو كانت شوهاء!

قبل أكثر من عشرين عاماً، كنت مسافراً من مدينة لمدينة أخرى داخل حدود إحدى الدول العربية، وقبل أن تتحرك السيارة جاءت فتاة إفريقية ذات بشرة سوداء فركبت معنا ذات السيارة.

كان عمري حينها لا يبعد عن الثامنة عشرة، وكانت هي في نفس عمري تقريباً، وفي تلك الرحلة حدثت نقلة نوعية عصفت بقناعة من أرسخ القناعات في ذهني، ففي النظرة الأولى رأيت عيوناً زرقاء كالمحيط النقي، ووجهاً مستديراً كالقمر يوم تمامه، فحاولت صرف انتباهي على غير رغبة من النفس المصدومة من هذا الجمال!

طيلة الطريق الممتد لساعتين ونصف وأنا أختلس النظر مرة بعد مرة، وفي كل مرة كان يتبدى لي جزء لم أعاينه من جمالها، فبدا الأمر كما لو أني واقف أمام لوحة فنية، رسمتها أنامل ملائكة الرقة، تحت إشراف ملائكة الجمال!

قلت في نفسي: ما هذا الجمال الفاتن؟ ومن رسّخ في أذهاننا أن للجمال مقاييس ومواصفات، وعلى أي أساس ننعت هذا بالقبيح وذلك بالجميل؟!

لقد كانت هذه المرة من المرات التي اضطرب قلبي أيما اضطراب من فتنة الجمال، ولقد حار عقلي ودار في حسنها.

هذا الموقف ولَّد عندي أسئلة لازمتني ولم تفارقني حتى الآن، أجاب الأدب عن جزء كبير منها، وأدركت النفس كذلك جزءاً آخر منها، ولم تزل هناك أجوبة يقيناً علمها عند الله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه.. سبحانه!

لقد جاء كل عصر حاملاً معه مقاييس للجمال والقبح، وما كان في عصر قبيحاً كان للعصر الذي يليه جمالاً، والعكس، علاوة على أن الجمال تختلف نظرة الناس إليه باختلاف المكان، وتناوب الحضارات.. وما يتفنن فيه نساء اليوم قد يكون غداً من مواصفات القبح.

ففي فترة من فترات التاريخ كانت الغمازات عنصر الجمال الأهم لدى المرأة، لدرجة أن بعض العلماء اخترعوا جهازاً لحفر غمازات في وجه النساء.

وفي أوروبا وتحديداً في مرحلة ما بعد العصور المظلمة، كانت الأجسام الممتلئة أحد معايير الجمال الأساسية، وكان ينظر للمرأة النحيفة نظرة احتقار، حتى تبدل الأمر في العصور الحديثة وصار العكس، حتى عند الرجال كان أغلب الرجال في العصور المظلمة يعمدون إلى إظهار الساقين بحجم أكبر مما هي عليه إذ كان ذلك مقياساً أوحد للجمال عند الرجل.

وهناك دول تتخذ من الأساليب والأنماط الغذائية والعلاجية ليبدو جسد المرأة نحيفاً، بينما تتفنن دول أخرى لزيادة الوزن، ذلك أن السمنة تعكس في ثقافتهم قدراً كبيراً من الجمال المادي والمعنوي.. كما في المجتمع الموريتاني!

قرأت ذات مرة أن بعض المجتمعات الإفريقية يفتنون بالمرأة شديدة سواد البشرة، ولهذا فمهرها أغلى من غيرها، كما تحرص هذه المجتمعات على اختيار صاحبة الشعر القصير لا الطويل، ولهذا تكثر فيهم حلاقة الصغيرات بماكينات الحلاقة.

والعرب قديماً كما يبدو في تراثهم الأدبي كانوا يأنفون من المرأة النحيفة ويتعوذون من رؤيتها، ولهذا أنشد بعضهم يقول: أعوذ بالله من زلاء ضاوية كأن ثوبيها علقا على عود.

والزلاء يعني النحيفة، وذلك بالطبع مغاير لوضعنا الحالي عند كثير من العرب.

إن (ليلى) حبيبة (قيس) التي جُن من أجلها كانت كما تقول بعض كتاب التاريخ سوداء حبشية، لا ترى في الليل من شدة سوادها.. وذلك على عكس ما يتصور كثير من الناس أنها كانت شقراء يافعة، هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة لا يشتكي منها قصر ولا طول.

الجمال نسبي بحت، يتطور مع الوقت ويختلف من شخص لآخر ومن عمر إلى عمر.. ولا يكون في الجسم فقط بل هو ممتد إلى الفعل والخلق!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد حمدي
كاتب وصحفي مصري
تحميل المزيد