الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو لم يكن شخصاً معروفاً إلا بعد أن نشر مقالة يجيب فيها عن سؤال طرحته إحدى المجلات: "هل ساعدنا التقدم العلمي…؟".
فكان مقاله بالنفي، وبإثبات أن التقدم العلمي دمَّر الإنسانية، ودحض كون الحالة الطبيعية للإنسانة حيوانية كما يعتقد هوبز، وأكد أننا كلما تقدمنا، انحطت أخلاقنا.
في كتاب "العلماني والمقدس"، يشير الكاتبان بشكل واضح إلى ارتباط التحرر الأخلاقي بالتنمية، فالدول الأقل تنمية تُبدي موقفاً معادياً للانحلال والتهرب من الواجبات الدينية عكس الدول المتقدمة، والتي يظهر بشكل واضح أن سكانها يفقدون اليوم بعد الآخر الحس الأخلاقي وينغمسون في الملاذات ويفقدون الارتباط الإنساني، باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية.
قبل أيام أعلن مارك زوكربيرغ عن تغيير اسم شركته إلى (Meta)، ومعناها الأبعد.
أشار مارك إلى أن التقنية التي يتم تطويرها لم يسبق لها مثيل، فإمكاننا صناعة نسخ افتراضية والتي ستمكننا من حضور المباريات في إسبانيا دون أن نبرح سريرنا، كيف ذلك، مارك شرح كل شيء.
هذه التقنية ستساهم أكثر حسب كثيرين في تحررنا من القيود الاجتماعية والأخلاقية، فلا أحد يتصور ما الذي يمكن أن يفعل مراهق بهذه التقنية وحتى الكبار.
من خلال المدة التي قضيتها على وسائل التواصل الاجتماعي ونتيجة لمعايشتي لتطور التكنولوجيا وخاصة في مجال التواصل، أجزم أنها أساءت للإنسانية بقدر أكبر مما خدمته، وقد يعارض كثيرون هذا الطرح، ولكني وانطلاقاً من مقارنة بسيطة بين شخصية التلاميذ الذين درستهم طوال تسع سنوات، بات لدي تأكيد شبه رسمي على ما توصلت إليه، فإن كان هناك اعتراض فلا أقبله إلا إذا بني على مراقبة طويلة وفاعلة، أما أن يقال إنها خدمتنا أكثر وذلك لأني أستطيع أن أنشر مقالي هذا بسهولة وأن يقرأه الآخر بسهولة أكبر فلا أعتقد أنها حجة توازي ما قدمناه.
يمكن أن نلمس بشكل واضح سلبيات التكنولوجيا الحديثة أو وسائل التواصل الاجتماعي؛ في المحتوى المعروض على يوتيوب.
يوتيوب: دروع من ذهب لأناس من قصدير
يصنف سقراط الناس إلى معادن، فهناك الذهب والفضة وغيرهما، وهناك القصدير، النوع الرديء الذي تحصل عليه بثمن بخس. وقد رأينا كيف أخرجت منازل القصدير الرجال والنساء العظماء، فهل يمكن أن نقول إن بعض الناس من القصدير؟
لا يهمنا في مقالنا هذا كل الناس، لسنا لجنة للإحصاء، إنما حسبنا منهم من يسمون "اليوتيوبرز" بل ويدعون زوراً "صناع المحتوى"، ويصفهم البعض بـ"المؤثرين". هؤلاء الذين نحن بحاجة للوقوف أمامهم وإطالة الوقوف، لأن مجرد الوقوف لن يمكننا من فهم ظاهرة اليوتيوبرز جيداً.
إن كان القصدير يبني بيتاً، أو يغطي سقفاً ويستعمل في صناعات معينة، وبالتالي يقدم للبشرية شيئاً ما، فإن بعض اليوتيوبرز وإن لم نقل جلهم لا يقدم للبشرية ما مقداره 1%، اللهم إن كان نشر التفاهة والعادات السيئة وتبدل العقول يظنها اليوتيوبرز ذات قيمة، فنعم هذا عطاؤكم غير مجذوذ وأنتم أحق الناس به وأنتم أهله، ومقدار التفاهة التي تنشرونها فاقت 100%، وهذا إنجاز لا شك عظيم!
يجب ألا نتحدث عن هؤلاء الأشخاص إلا ونحن نفهم جيداً ما يحدث، فلا يمكن فهمه تصرفاتهم الخرقاء ولا فيديوهاتهم التي لا معنى ولا فائدة منها (وكمثال على ذلك قامت عائلة مشهورة بعرض نوع الجنين على برج خليفة، الأمر الذي كلفها الملايين، في الوقت الذي لن يقدم هذا الإنجاز المبهر والعظيم للبشرية أي شيء، بل جلب لهم السخط والانتقاد أكثر مما جلب من الإعجاب)، دون فهم لواقع المجتمعات العالمية والعربية خاصة، فهذه المجتمعات وعبر إضعاف للتعليم وتسييس للسينما والإعلام، باتت جوفاء كالطبل، لا تكاد تسمع سوى الصدى، فهي غير قادرة على التجاوب مع المحتوى المهم والمفيد، فذاك يتجاوز قدراتها، الفكرية والعقلية، فالفكر ضحل، والعقل جامد لا يتحرك، شيخ يتعب بسرعة.
لهذا تجد أن المحتوى التافه يتصدر المشهد، ولا يكاد يزاحمه على التريند إلا بعض المباريات في كرة القدم.
لقد بات اليوتيوب وكراً للتفاهة فعلاً، ولكن الاستثناء موجود وحاصل دائماً؛ ففي الوقت الذي نسبح في مستنقعات التفاهة، هناك بارقة أمل ونسمة وادٍ تنبعث لتزيل عنا الأوساخ وتغسل عقولنا من طين المستنقع، ورائحة مياهه الراكدة.
هناك يتجلى يوتيوبرز معدودون فوق رؤوس الأصابع، يتلألأ منهم اليوم "أبو فلة".
أبو فلَّة قبِل التحدي
حسن سليمان، شاب وسيم بملامح عربية صرفة، يلقب نفسه "أبو فلَّة"، وفي هذا يقول إن اللقب جاء لكونه يحب البهجة والسعادة، فهذا معنى "الفلة" في الخليج العربي، وليس معناها كما قد يعتقد البعض، اسم فتاة، فالرجل لم يتزوج بعد.
حين أراد أن يعرف بنفسه رفض حسن أن يفصح عن بلده الأم، وكان مبرره أن البلد لا يهم، وأن الأهم هو أنه إنسان، فلا الإنسان بانتمائه ولكن بإنسانيته، أُعجبت بهذا كثيراً، وعلمت أن الشاب يحمل بداخله شعلة نور، لابد لها أن تنير يوماً ما.
افتتح قناته في عام 2016، وهكذا دخل عالم اليوتيوب، الدخول الذي لم يكن سهلاً كما يعتقد البعض، والرجل يروي تفاصيل عدم تقبل العائلة وخاصة الوالد للأمر، ورفضه القاطع للفكرة، ونحن لا نلومه ولا أبوفلة يفعل، وذلك لأن هذا العالم سيئ وقد ينتهي بك إلى ما لا تحمد عقباه، كما شرحنا سابقاً.
ومن هنا ندرك أن التحدي الذي كان على أبو فلة أن يتجاوزه إقناع الوالد، بل الكثيرين ممن حوله، بفكرة صناعة المحتوى أولاً، وبإمكانية الخروج عن المألوف ثانياً، وأعتقد أن الثاني أصعب الأمرين، فكيف يمكن للمرء الفكاك من بين أنياب التفاهة إلا إذا ما كان قد مرَّ من عمره سنون وأعوام، وذلك ما لا يملكه أبو فلة، الذي يعيش عقده الثاني.
ولكن البطولات لا تقاس بالأعمار ولا بالتجارب، وها هو أبوفلة يصل للنجومية في وقت سريع للغاية، ويغير معالم اليوتيوب العربي؛ ويقنع والده والكل بأن الخير باقٍ ما بقيت السماء، وأن في قلب الصحراء واحة مخضرة، وفي ظلمة الليل قبس نور.
أبو فلة الرجل الذي أنار الشمعة
ألم أقل لكم إن الرجل يحمل شعلة نور ستضيء المكان، وهذا الذي حدث بالضبط.
لمدة ثمانٍ وعشرين ساعة متواصلة، استطاع أبو فلة أن يجمع من المحسنين والمحسنات عبر ربوع الوطن العربي وخارجه ما مقداره "مليون دولار"!
لا يمكنني لليوم أن أصدق الذي حصل، فمليون دولار رقم خيالي لا نسمع به إلا في الأفلام، وحتى وأنا أكتب المقال ما زلت متعجباً مما حدث، فكيف فعلها أبوفلة، إنه لأمر مثير للدهشة، ولا شك أنه أغرب ما حدث في تاريخ اليوتيوب منذ ظهوره.
حتى إنني أجد من الصعب على المرء أن يقص الخبر على من لا علاقة له بالتكنولوجيا، فكيف سيصدق أن شخصاً يمتلك قناة على اليوتيوب، استطاع أن يجمع هذا المبلغ، الكل يدرك صعوبة الأمر، ولا أكذب إن قلت إن الجميع وعلى رأسهم أبو فلة لم يتوقعوا ذلك. لكن الذي هذا هو الواقع وأبو فلة جمع المليون دولار في يوم وأربع ساعات.
ليس هذا أول عمل خيري يقوم به أبو فلة وليس هذه أول عملية جمع للصدقات ينظمها الشاب، بل أعماله في هذا الميدان كثيرة ولله الحمد وإطلالة على قناته تريك حجم الأعمال الخيرية التي يقوم بها، هذا ولا شك مع وجود أعمال أخرى خيرية لا نسمع عنها.
ولهذا نقول: "ربح البيع أبا فلة"، أحسنت عملاً؛ جعلتنا نؤمن مرة أخرى بأننا نستطيع، وصدقنا المثل القائل "أن تنير شمعة خير من أن تلعن الظلام"، لقد أنرت الطريق يا أبا فلة.
رسالة إلى اليوتيوبرز
ليس لدي أي عداوة شخصية مع أحدكم، ولا أريد أن تتوقفوا في عرض محتواكم فذاك شأنكم وتلك بضاعتكم، ولكني وانطلاقاً من تجربة أبوفلة أرى أن الوقت قد حان لكي تحرك ذاك الإنسان القابع في دواخلكم، وأن تجعلوا لعمل الخير ومساعدة الناس وخاصة اللاجئين الذي حرموا نعمة الوطن ودفء العائلة، حظاً من محتواكم ومن ووقتكم، فضلاً وليس أمراً.
ولا يعني هذا أن صناع المحتوى في الوطن العربي أناس بلا ضمير ولا كونهم سيئين بل إنهم وبفضل الله أخيار، ولهم أعمال ربما لا يشاركونها.
إنما دورنا ككتاب رأي أن نعبر كما يخالج المتابع، فالكل اليوم يطالبكم بأن تدركوا الدور الذي تلعبونه، والوعي بالقوة التي تمتلكونها، فجمهوركم واسع، ولا يستهان به، ولكم من قوة التأثير الشيء الكبير، وهذا أمر لا ننكره، ولكننا نسجل أن تأثيركم يصب في المكان الخطأ.
يمكنكم دون شك أن تغيروا حياة الناس للأفضل، وهناك الكثير من الأشخاص الذي يحتاجون مساعدتكم، فلا تبخلوا عليهم.
ليست التسلية والألعاب والمقالب المضحكة الظريفة حراماً ولا عيباً، فأبوفلة ملك الضحك والمرح، ولكن ها هو يضرب لنا مثلاً في العطاء، بالتالي يجب أن نوازن على بين ما نقدمه من محتوى مسلّ وما نقدمه من محتوى هادف ومفيد.
لقد وضعنا أبو فلة جميعاً لا اليوتيوبرز فقط في الزاوية، فعلينا أن نفهم أن حياتنا ليس عبثاً، وأن دورنا لا يقتصر على الأكل والعمل والسفر، وأن الحياة ليست المرح والتسلية فقط، بل فعل للخير ومد يد العون.
إن ديننا دين الخير والعطاء، ورسولنا مضرب المثل في الجود، فكان الحبيب صلى الله عليه وسلم "كالريح المرسلة"، فهو الكريم ابن الكريم، وكان صحابته كذلك، وبقيت هذه الأمة مضرب المثل في الجود إلى أن حدث ما حدث وتغيرنا. ومع ذلك لم ولن يقطع الخير منها، وأبوفلة خير برهان ودليل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.