لم يشهد جيش الاحتلال الاسرائيلي صعوداً مخيفاً في نسب الانتحار والتهرب من الخدمة وتعاطي المخدرات وانخفاض مستوى الدافعية القتالية كما هو حادث في السنوات الأخيرة، وباتت تشكل تلك الظواهر في الجيش الإسرائيلي موضوعاً مهماً وحساساً في إسرائيل، حاولت قيادة الجيش الإسرائيلي في البداية إبقاءه طي الكتمان وعدم الإعلان عنه رسمياً.
لكن مع تفاقم هذه الظواهر اضطرت قيادة الاحتلال إلى إجراء نقاشات علنية والبحث عن وسائل فعّالة لمعالجة هذه الظواهر، وشكلت بعد سنة 2006 لجنة خاصة مهمتها دراسة أسباب إقدام الجنود الإسرائيليين على الانتحار وكيفية معالجتها.
بعد حرب العصف المأكول 2014 أعلن الجيش الإسرائيلي ارتفاع حالات الانتحار بين الجنود الإسرائيليين خلال عام 2014، حيث انتحر 15 جندياً، وهو العدد الذي يزيد قليلاً عن الضعف مقارنة بعدد حالات الانتحار في عام 2013، وفقاً لبيان صادر عن الجيش الإسرائيلي، نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست"
وأظهرت إحصاءات رسمية لمركز الأبحاث في الكنيست أن إسرائيل تسجل منذ 2010 حتى 2020 نحو 5380 حالة انتحار في صفوف المجتمع الإسرائيلي، بمعدل 500 انتحار في كل عام تقريباً، منها مائة انتحار سنوياً في صفوف جنود الجيش الإسرائيلي.
الدراسات الاسرائيلية تقول إن أسباب الانتحار في صفوف الجيش الإسرائيلي تعود إلى انتشار الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي وبين اليهود من مختلف الطوائف والشرائح العمرية والطبقات الاجتماعية، وذلك لأسباب نفسية واجتماعية واقتصادية لا سيما مع ارتفاع معدلات البطالة والفقر.
كما تشهد ظاهرة تهرب جنود الاحتلال الجُدد من الخدمة العسكرية في الجيش اتّساعًا بنسبة كبيرة مؤخرًا؛ إذ وصلت إلى 32.9%، وهو ما اعتبرته أوساطٌ أمنية ظاهِرة مُقلقة، استدعت اتخاذ إجراءات مضادة للتخفيف من أثرها واتّساعها.
ووفق ما ذكرته صحيفة يديعوت أحرنوت "الإسرائيلية" فإن ثلث الذين تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية، في عام 2020، امتنعوا عن التجنيد، وأحد البنود التي يعتمدون عليها هو الإعفاء من الخدمة العسكرية بسبب الحالة النفسية.
مؤخراً كثرت الدراسات والتقارير الاسرائيلية التي ترصد ظواهر متعددة في صفوف الجيش الاسرائيلي، والتي تشير بمجملها إلى أن أسباب التهرب من صفوف الجيش والانتحار وتعاطي المخدرات ترتبط بالعوامل الشخصية والمجتمعية.
ويرى البعض أن شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي تتعمد حجب الحقائق بشأن تفشي ظاهرة الانتحار، وتتكتم على الأعداد الرسمية والحقيقية للجنود الذين يقدمون على الانتحار سنوياً، لأسباب أمنية من أجل الحفاظ على الدافعية للالتحاق والانخراط في الخدمة العسكرية الإجبارية.
وعند النظر بعمق للأسباب الفعلية لهذه الظواهر المتفشية بالجيش الإسرائيلي دون الالتفات لسياسات التبرير السطحية المقدمة من الجيش المعروف عنها إخفاء الحقائق المتعلقة بشن عملياتها وحروبها العسكرية وتوريط جنودها بها.
نرى على أرض الواقع الكثير من جنود الاحتلال الذين ينخرطون في الخدمة العسكرية بالجيش الصهيوني صرّحوا في مناسباتٍ عدّة بعدم رغبتهم في العمل مع الجيش، وخاصةً بعد المعارك التي يشنّها الكيان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وما يخوضه من حروبٍ، يرى الجندي أنّها تُعرضه للخطف والقتل، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن العنصر البشري هو الأهم في أي جيش أو قوة عسكرية، تعكس هذه المؤشرات كلّها ضعفاً جذرياً في منظومة الجيش "الإسرائيلي" الهشّة جداً، رغم كل ما تطوّره من تقنيّات ومُعدّات لحماية وتأمين وتتبّع قواتها، ودعاية وترويج لقوّتها وعتادها.
بحسب بعض الدراسات الأخيرة نجد أن أغلبية المنتحرين هم العائدون من ميدان المعارك، وإن معظم الجنود الذين انتحروا عانوا مدة طويلة من قلق بشأن المستقبل، وعاشوا حالة إحباط مستمر وارتباك شديد وشعور بعدم الانتماء للإطار العسكري.
وفي المجمل، يمكن ربط حالات الانتحار والتهرب من الخدمة العسكرية بالعمليات العسكرية والمعارك التي تجري مع المقاومة، فبعد أي عملية عسكرية كبيرة نلحظ ارتفاع عدد الجنود الذين خضعوا لعلاج نفسي، الأمر الذي دفع القيادة العسكرية للجيش إلى اللجوء إلى خدمات القطاع الخاص في الطب النفسي لمعالجة تزايد الحالات النفسية وسط الجنود.
هذا تشخيص يكشف حقاً عن صلب الحقيقة التي يخفيها قادة الجيش الإسرائيلي بسبب الرقابة العسكرية، لذلك نرى أن أغلب التقارير الصادرة تزعم أن المسببات الرئيسية التي تدفع الجنود للانتحار أو التهرب من الخدمة تعود إلى الضغوط النفسية والإدمان، بينما الدراسات الأخيرة تؤكد عكس ذلك وتنص على تنامي ظاهرة الانتحار والهروب من التجنيد تعود بسبب المعارك مع المقاومة
فالجيش الإسرائيلي ورغم التفوّق التسليحي والتكنولوجي، إلا أنّه يفتقر للدافعية القتالية التي تعدّ أحد أبرز الثغرات في الجيش، وهذا ما أكده ألون بن دافيد، الخبير العسكري في القناة العاشرة، حين قال إن "المشكلة التي يواجهها الجيش تكمن في عدم جاهزيته للمعركة القادمة، وليس مردها إلى نقص في المعدات أو شح في الإمكانيات، وإنما في عدم وجود الحافزية عند الجنود والضباط لخوض القتال".
ويمكننا أن نضيف هنا نقطة أخرى، ألا وهي مسألة الإيمان لدى الجندي المقاتل، كونها الشحنة الذاتية التي تقوي إرادته وتزيد من عزيمته وهو يجابه الموت دفاعاً عن وطنه وأرضه وعرضه.
لكن الجندي الصهيوني يفتقر لهذه المسألة الإيمانية لأنه يقاتل من أجل أهداف وغايات سياسية وشخصية تتعلق بمصالح، فهو جندي يقبض أتعابه مزود بأحدث الأسلحة الإسرائيلية الفتاكة، لكن تنقصه روحانية النفس الإنسانية؛ لذلك عندما يجد نفسه متورطاً بحرب صنعها قادته من ناحية، ويكتشف الزيف والتضليل في أسباب اندلاعها من ناحية أخرى، فإن الإحباط يتنامى بداخله ليتحول إلى يأس وقنوط.
خصوصاً وهو يرى تساقط زملائه بمعارك غزة بالقنص أو التفجير او الكمائن أو الأسر مثل تساقط الهوائم في هشيم النار.
وبما أنه يخشى من هكذا قتال ولا يرى فيه جدوى، وأنه مجبر على مواصلة القتال والخدمة لذا يتجه صوب الهروب الأبدي عبر الانتحار أو الهروب والتملص من أداء الخدمة على خطوط المواجهة، ولا حل لهذه الظواهر المتنامية في صفوف الجيش الإسرائيلي إلا بإنهاء الاحتلال وإرجاع الحق لأهله الأصليين نحن الفلسطينيين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.