كما كان متوقعاً، وكما كانت التجارب السابقة، فقد كان الجواب التنظيمي هو المدخل لتدبير الأزمة التي يعيشها حزب العدالة والتنمية في المغرب، بعد النكسة الانتخابية التي تعرّض لها، وتم الاحتكام إلى الديمقراطية الداخلية، وعاد عبد الإله بن كيران إلى رئاسة الحزب (الأمين العام)، دون أن يعرف المؤتمر أي نقاش سياسي تقييمي لمحطة الاستحقاقات الانتخابية، ودون أن تحصل أي وحدة على هذا المستوى بين مكونات الحزب وحساسياته.
معطيات المسألة
المؤشرات المرتبطة بالتصويت بعثت برسالة واضحة، فحوالي 81% صوتوا لعبد الإله بن كيران، وهو رقم دالّ، يغني عن أي تقييم للمحطة الانتخابية، ويؤشر على وجود أغلبية داخل الحزب، يحملون مسؤولية الفشل الانتخابي لقيادة الحزب السابقة، بالرغم من الإقرار بوجود عوامل موضوعية تتعلق بتدخلات إدارية لتكييف نتائج العملية الانتخابية.
الإشارة الثانية التي بعثها هذا التصويت هي غياب أعضاء من القيادة السياسية في الأمانة العامة عن لائحة المنافسين، وبروز منافسين من الصف الثاني، وخارج القيادة التاريخية (جيل التأسيس الأول)، وهي ملاحظة مهمة، تزكي التفسيرات التي ترصد تحولات الأجيال داخل الحركات الإسلامية، وأثر ذلك في التوترات الداخلية التي تعرض لها أكثر من تنظيم حركي.
البعض يتصور أن مجرد انتخاب بن كيران سيحل المشكلة، وسيعيد الحزب إلى سكة الانتصارات المتوالية، كما حدث في السابق مع هذه القيادة في 2009 و2011 و2015 و2016، لكن هذا التحليل السطحي والعاطفي يغيّب الكثير من الأبعاد، فالانتصارات السابقة التي حققها بن كيران جاءت في سياق تراكمي، بحيث لم تحصل أي نكسة انتخابية للحزب منذ دخوله إلى العملية السياسية سنة 1997، لكن هذه اللحظة الحاسمة التي يعيشها الحزب اليوم مختلفة تماماً، فقد انتخب بن كيران وحزبه شبه ممسوح من الطاولة، وشبه غائب عن دائرة التمثيلية المؤسساتية (البرلمان، مجلس المستشارين، مكاتب المدن، مكاتب مجالس الأقاليم والجهات).
المعطى الثاني المفارق، أن لحظة الانتصارات الانتخابية كانت مرتبطة بحالة تماسك داخلي غير مسبوق داخل الحزب، حيث كانت أمانة الحزب ممثلة بكل الحساسيات المختلفة، وكان القرار الحزبي جماعياً موحداً، برؤية تؤطرها "أطروحة النضال الديمقراطي" التي أفرزها المؤتمر السادس للحزب المنعقد سنة 2008. في حين ورث بن كيران اليوم وضعية جد مهلهلة للحزب، وحالة شرخ قيادي، انعكس على مستوى القواعد، محدثاً بدوره حالة انقسام فكري وسياسي ونفسي، تجعل أولوية الأولويات بالنسبة للقيادة الجديدة هي معالجة هذا الوضع وإصلاح عطب الآلة الحزبية والتنظيمية.
المعطى الثالث يتعلق بتحولات السياق الدولي والإقليمي، بل وتحولات المشهد السياسي أيضاً، فقضية دعم التحولات الديمقراطية، التي استفاد منها الحزب ما بين سنة 2002 وسنة 2008 لم تعد خياراً للسياسات الدولية، كما أن الربيع العربي (2010 و2011)، الذي ساهم في صعود الإسلاميين، ارتدّ إلى خريف ديمقراطي، أنزل الإسلاميين من سفينة الحكم في مصر، ثم بعدها في تونس، ليكتمل مسار إخراج الإسلاميين من الحكم، بالنكسة الانتخابية التي تعرض لها العدالة والتنمية المغربي في 2021.
الوضع الدولي يعرف اضطراباً غير مسبوق، وسط بروز مطامح إقليمية لبعض الدول تمددت خارج الرقعة الاستراتيجية القريبة لحدودها، مع بروز تحديات تتعلق بالسيادة، وعدم استقرار الولاءات والتكتلات والتحالفات السياسية والاستراتيجية.
هذه الوضعية، مع ما رافقها من كساد اقتصادي بسبب جائحة كورونا جعلت المعطى الأيديولوجي كله يتراجع، ودفعت بلوبيات المال والأعمال، للتحرك لتصدر واجهات العمل السياسي، بعد أن كانت تكتفي بالعمل من الخلف، بممارسة الضغط على السياسيين، من أجل تحصين مصالحها.
هذه المعطيات الثلاثة تجعل من أولوية إعادة تصدر المشهد السياسي والعودة إلى سكة الانتصارات الانتخابية بالنسبة إلى القيادة الجديدة للعدالة والتنمية خيارات طوباوية مستحيلة في المدى القريب، لاسيما أن ولاية الأمين العام الجديد هي مجرد ولاية استثنائية ترتب للوضع التنظيمي العادي، الذي سينطلق بعد عقد المؤتمر العادي.
الفوز مستبعد الآن
ولذلك، فالأولويات التي تناسب المرحلة، وتناسب الحالة التي يوجد عليها الحزب، ربما تستبعد في المدى القريب حكاية الفوز الانتخابي، وتركز بدلاً عن ذلك على إصلاح الآلة الحزبية، وإنهاء حالة الانقسام الداخلي، وإعداد جواب سياسي جماعي عن المرحلة، فضلاً عن تحديد الرؤية الاستشرافية، والأولويات التي سيشتغل عليها الحزب، بالإضافة إلى بذل جهد كبير لتصحيح الصورة السلبية التي رسخت في مزاج الرأي العام عن هذا الحزب بفعل الآلة الإعلامية الضخمة التي عملت على تبخيس إنجازاته، والصراعات الداخلية التي اخترقته.
رؤية بن كيران التقليدية، والتي أعاد التأكيد على جزء منها في كلمته عقب إعلان فوزه بالأمانة العامة للحزب، هو ضرورة التركيز على المرجعية الإسلامية والرهان عليها لتقوية الصف الداخلي، وإحداث المصالحات الضرورية بين مكوناته، والتشبث بالملكية وتقوية الدولة، والمعادلة بين خدمة الدولة من فوق، وتمثيل طموحات الشعب من تحت، وعدم التفريط في المبادئ، وبذل النصح للحكم باللياقة واللباقة الممكنة.
بن كيران قبيل إعفائه من رئاسة الحكومة، وبالتحديد عند لحظة البلوكاج (تكتل حزبي ضده لمنعه من تشكيل حكومته) انتهى في تقييم مساره السياسي من هذا الموقع (أي موقع رئاسة الحكومة) إلى ضرورة المطالبة بإصلاح دستوري يحدد الصلاحيات بين المؤسسات ويدققها، حتى ينتهي الغموض بين من له سلطة الأمر، ومن يتعرض للمحاسبة.
لكنه في كلمته الأخيرة، دعا أمانته العامة، وأوصى أعضاء الحزب أيضاً بالبقاء في موقع المتأمل والملاحظ على الأقل لمدى قصير، وعدم التفاعل المباشر مع الأحداث، حتى تستبين معالم المشهد السياسي، وهل يمكن لحكومة أخنوش أن تستمر؟ أم أن الحراك الاحتجاجي والأخطاء المبكرة التي اقترفتها ستُعجل برحيلها.
الداخل الحزبي ينتظر بجدية إجراء مصالحة شاملة داخل التنظيم، لكن أسلوب بن كيران في تشكيل أمانته العامة بعث برسائل مفارقة، فبينما أعطى إشارة إيجابية إلى التشبيب وإدخال الجيل الثاني والثالث للقيادة، وإجراء قطيعة متدرجة مع جيل التأسيس (القيادة التاريخية)، بعث في المقابل إشارات مشوشة وغير مبشرة، حينما غابت حساسيات مهمة عن هذه التشكيلة، وهو ما أذكى الانطباع بتكرار بن كيران لأسلوب سعد الدين العثماني غداة تشكيل أمانته العامة في مؤتمر 2017، حين اختار الطرف المؤيد لأطروحته دون الآخر.
ابن كيران والاختبار الصعب
بن كيران كاريزما قيادية قوية، ويتمتع بذكاء سياسي خارق، وقدرة رهيبة على تعبئة التنظيم، وخوض المعارك السياسية والإعلامية، لكن هذه المؤهلات تنفع في اللحظة التي يحقق فيها الحزب تموقعه السياسي في ساحة الصراع السياسي، أما قبله، وبالتحديد في اللحظة التي يحتاج فيها الحزب إلى تجميع مكوناته وإجراء مصالحة داخلية، تمكن من رصّ الصف الداخلي، وترتيب أجواء الحرية لفتح نقاش سياسي لإنتاج أطروحة سياسية جديدة للحزب، فذلك يتطلب مؤهلات أخرى إضافية، تُمكن من فهم طبيعة التنظيم، وإدراك التحولات التي عرفها، وشبكة المؤثرين في صناعة المزاج الداخلي، ونوع الاصطفافات والكتل التي صارت تخترق كيانه، والتمتع بقدر كبير من الإنصات والحكمة في التعامل، مع الصرامة اللازمة في تجاوز الاختلالات ذات الطبيعة التنظيمية والتربوية.
مهمة بن كيران ليست سهلة، وليست أيضاً سياسية فقط، بل هي بدرجة أولى مهمة بيداغوجية إقناعية، تتوسل توفير الشرط الأساسي الذي به كان يخوض معاركه الانتخابية، ويتصدر المشهد السياسي.
لا أحد يشك في مؤهلات بن كيران السياسية والتواصلية والإعلامية، ولا في فهمه للمعادلة السياسية في البلاد، لكن التحديات التي يتعرض لها الحزب تحتاج مؤهلات أخرى إلى جانب ذلك، وهي مؤهلات التجميع وحسن الاستماع وفن تركيب الأفكار المختلفة، ومنهجية إدماج القيادات المعارضة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.