عندما أتأمل في واقعي كمغترب منذ أمد طويل، وأنظر في حالي وحال أولادي، تؤرقني بعض طوارق أفكار الليل، فتقضّ مضجعي وتسرق نومي، ويتقلب وجهي في السماء، لعل الله يولّيني قبلةً أرضاها، أسوةً بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وبعد تفكير وتأمل في غربتي وهجرتي، وجدت أن ديني الإسلام قد فكّ الارتباط الحسي والمادي بالأرض أو "الوطن"، حيث إنه أرسى في قرارة نفسي ارتباطاً روحياً بها، "ألم تكُنْ أرضُ اللهِ واسعةً فتُهاجِرُوا فيها".
صرتُ على قناعةٍ راسخة بأنَّ المسلم مسؤولٌ شرعاً عن مصيره ومآلاته إذا ما تمسك بأرضٍ يُمنع فيها من أداء شعائره، أو لا يأمن فيها على ماله وعرضه، أو تُنتهك فيها حقوقه ولا تُؤدَّى إليه واجباته.
وأعتقد أنه من هذا المُنطلق كانت هجرة المسلمين الأولى والثانية من أطهر بقاع الأرض إلى أرض الحبشة، مفتاح هجرتهم إليها كان واضحاً جلياً لا يقبل اللبس أو التأويل "لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ".
لم يكن ملك الحبشة مسلماً، بل كان نصرانياً، كان عادلاً منصفاً، عدل النجاشي كحاكم جعل أرضَه قِبلةً للباحثين عن الحرية، للهاربين من الاضطهاد، لم تكن لعقيدة الحاكم المخالفة لعقيدتهم أي دورٍ يُذكر في اختيار أرض المهجر.
كان يكفي المسلمين الأوائل أن يكون النجاشي ملكاً عادلاً، وأن تكون المشورة النبوية بأن يهاجروا إلى أرضه، فتمت الهجرة وتحققت المقاصد ونفذت بصيرة المؤمن.
وما هي إلا أعوامٌ قليلة مضت ليأتي بعدها الحدث الأهم في تاريخ المسلمين؛ هجرة سيد المرسلين من أُم القرى؛ مكة المكرمة، التي نشأ فيها وتعلَّق قلبُه بها وبكعبتها، إلى أرض يثرب التي صارت بقدومه طيبة. ترك النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة التي بغى أهلها على بني جلدتهم، وطغى زعماؤها على أبناء عشائرهم، بالقهر والظلم لم تعد مكة مكاناً يصلح للإقامة، فهُجرت على طُهرها.
مكة المكرمة أحب بقاع الأرض إلى الله، وإلى رسوله، جاء الأمرُ من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم بمغادرتها، "واللهِ إنك لأحبُّ أرضِ الله إليَّ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنَّ أهلَكِ أخرجونى منكِ قهراً ما خرجتُ".
هُجرت مكةُ جسدياً، ولكنها ما زالت متغلغلةً في الأعماق، هُجرت مكة إلى حيث كان الترحيب بطلوع الفجر من ثنيات الوداع.
إن استقراء تلك الرسائل من السنة النبوية الشريفة، واستنباط تلك الدروس العملية المستقاة من كيفية اتخاذ النبي (ص) للقرارات المصيرية يجعلنا ندرك بصورةٍ تقطع الشك باليقين أنه لا ينبغي لنا أن نسمح للجغرافيا الممزوجة بالمشاعر والأماكن التي تعبق بالذكريات بلعب دورٍ في تقرير مصائرنا، وأن تكون القيم المعنوية هي بوصلة وجهاتنا، وإدراكنا للمقاصد سيجعلنا أكثر قدرةً على العمل بالأسباب، ما دام الغرس طيباً، وقد أخذ حقه من التربية والعناية والرعاية فإن هذا الغرس سيُثمر ثمراً مباركاً، إذا زُرع في أرضٍ صالحةٍ للزراعة.
الأرض السبخة لا تُنبت لاختلال ملوحتها، والأرض الرملية لا تُنبت لعدم ثبات جذور الغرس فيها، فيكون عرضةً للاجتثاث عند أول هَبّة ريح، والأرض المُوحِلة لا تُنبت بالرغم من أن تربتها خصبة، فإن كثرة الماء فيها تجعلها رخوة تُغرق الزرع وتهلك الحرث بكثرة مائها.
بالرغم من فكّ الارتباط الحسي هذا فإن الإسلام رسَّخ العلاقة الروحية مع الأرض، "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهوِي إليْهِم" بل وخصَّ بعض مواضع الأرض بالبركة، "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ". فكانت عظمة هذا الدين مرتبطة بتشذيب المشاعر بانتمائها لتعاليم خالقها، فنترك الأرض التي نحب لنكون أحرار الإرادة، وأقصى درجات حريتنا هي عبوديتنا لخالقنا باختيارنا.
ونعود للأرض التي تركناها بحنينٍ لمناسك أُمرنا بها أو لغايةٍ خُلقنا لأجلها. الهجرة حدثٌ عظيم بدأ تاريخنا به، ولا نزال عليها إلى قيام الساعة ما دامت الأرضُ رحيبةً، وهي ملكٌ لله وحده، فنفِرُّ من قضاء الله إلى قضاء الله.
ونقوم بواجب خلافته سبحانه في الأرض وعمارتها بالأعمال الصالحة، والتعارف مع الشعوب والقبائل الأخرى، لنُجسّد مفهوم الكرامة للأتقى.
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة تاركاً قلبه في مكة المكرمة، ولم يرجع إليها بعد الفتح، إذ آثر استكمال رسالته التربوية بإيصال هذا المفهوم العميق لنا.. وطن المرء حيث يجد كرامته، والكرامة لا تتحقق إلا بالتقوى، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.