ماذا يعني أن تكون إنساناً؟ لدى علم الأحياء إجابة بسيطة: إذا كان الحمض النووي الخاص بك متوافقاً مع الإنسان العاقل فأنت إنسان، لكننا نعلم جميعاً أن الإنسانية أكثر تعقيداً ودقة من ذلك، وقد صنفت مدارس العلوم الأخرى البشر من خلال سلوكهم الاجتماعي أو النفسي، وفي الواقع الإنسان أكثر من مجرد كونه مجموعة أفكار وأفعال.
مرة أخرى نواجه نفس الإشكالية: ما الذي يجعلنا بشراً، هل إضافة التعاطف تجعلنا بشراً، هل إزالة الرغبة في الإنجاب تجعلنا غير إنسانيين؟ إذا قمت بتغيير عقلك وجسدك ليتصرف بطريقة مختلفة وغير متوقعة، هل هذا يجعل منك إنساناً؟ إذا أزلت كل أطرافك وقطعت رأسك ووضعتها على إنسان آلي فهل ما زلت إنساناً؟
للوهلة الأولى قد تبدو هذه الأسئلة ملتهبة، أو ربما سريالية وخيالاً علمياً، لكن لا تنخدع: في العقد القادم، بالنظر إلى استمرار التطور المتزايد لتكنولوجيا الحاسوب والطب الحيوي، سنضطر لمواجهة هذه الأسئلة ومحاولة إيجاد بعض الإجابات.
ما بعد الإنسانية هي حركة ثقافية وفكرية تؤمن بأنه يمكننا، ويجب علينا تحسين الحالة البشرية من خلال استخدام التقنيات المتقدمة.
وأحد المفاهيم الأساسية في التفكير ما بعد الإنسانية هو تمديد الحياة أو الخلود.
من خلال الهندسة الوراثية، والتكنولوجيا النانوية، والاستنساخ، وغيرها من التقنيات الناشئة قد تصبح الحياة الأبدية ممكنة قريباً.
كما يهتم علماء ما بعد الإنسانية بالعدد المتزايد من التقنيات التي يمكن أن تعزز قدراتنا الجسدية والفكرية والنفسية، بما يتجاوز ما يستطيع البشر القيام به بشكل طبيعي (الإنسان الخارق)، وذلك عبر تحفيز التيار الكهربائي المباشر في الدماغ (tDCS)، وهو ما يسرع أوقات رد الفعل وسرعة التعلم عن طريق تشغيل تيار كهربائي ضعيف جداً عبر عقلك، وقد تم استخدامه بالفعل من قبل الجيش الأمريكي لتدريب القناصين.
على الجانب الأكثر تطرفاً تتعامل النزعة ما بعد الإنسانية مع مفاهيم تحميل العقل على الكمبيوتر، هذا ما يحدث عندما نصنع أخيراً جهاز كمبيوتر يتمتع بذكاء أكبر من الإنسان (the technological singularity).
وبعيداً عن الفوائد الواضحة للحياة الأبدية أو القوة الخارقة (superhuman)، تدرس الحركة ما بعد الإنسانية أيضاً المخاطر المحتملة والمنزلقات الأخلاقية لتعزيز قدرات الإنسان في حالة إطالة العمر، إذا توقف كل إنسان على وجه الأرض فجأة عن الموت فإن الزيادة السكانية ستؤدي إلى كارثة اجتماعية واقتصادية مأساوية وسريعة للغاية، ما لم نتوقف عن إنجاب الأطفال.
لكن هذا مجرد باب يفتح العديد من الأبواب الأخرى: بدون الولادة والموت هل سيستمر المجتمع والإنسانية في النمو والتطور، أو سيصاب بالركود، مختنقاً بالأنا المتراكمة للمثقفين والديماغوجيين الذين لن يموتوا؟
وإذا كان الأثرياء فقط هم من يستطيعون الوصول إلى عقاقير وتقنيات الذكاء الاصطناعي وتقنيات تعزيز القوة، فماذا سيحدث للمجتمع؟ هل يجب أن يكون لكل فرد الحق في رفع مستوى ذكائه، هل سيظل المجتمع يعمل بسلاسة إذا كان معدل ذكاء الجميع 300 وخمس درجات دكتوراه؟
كما ترى، تتعقد الأمور بسرعة عند مناقشة أفكار ما بعد الإنسانية- إطالة الحياة والذكاء المعزز والقوة، وهذا غيض من فيض! ينبع هذا التعقيد الفلسفي والأخلاقي من حقيقة أن ما بعد الإنسانية يدور حول دمج البشر بالتكنولوجيا، وأن التكنولوجيا تتقدم وتتحسن وتفتح آفاقاً جديدة بسرعة كبيرة جداً.
لطالما استخدم البشر التكنولوجيا، بقدرتنا على استخدام الأدوات وفهم ونحت المفاهيم في العلوم والفيزياء والفلسفة والتاريخ، هذا ما ميزنا عن الحيوانات الأخرى، ولكن المجتمع أصبح غير مرتبط بشكل جوهري في عصرنا الحالي، وهذا ما رأيناه في السنوات القليلة الماضية فقط، مع ظهور الهاتف الذكي وشبكات الإنترنت عالية السرعة في كل مكان.
من جهة أخرى، يتحرك البشر والحضارات التي يبنونها ببطء نسبياً، فقد استغرق منا اكتشاف اللغة ملايين السنين، وآلافاً أخرى لاكتشاف الطب والنظريات العلمية.
وفي غضون بضعة آلاف من السنين، وحتى القرن الماضي، ضاعفنا عمر الإنسان بفضل الأدوية، كما أنه في غضون السنوات الـ100 الماضية قد ضاعفت التكنولوجيا عمر الإنسان مرة أخرى، فخلقت عيوناً إلكترونية وهياكل خارجية تعمل بالطاقة، كما بدأنا فهم كيفية عمل الدماغ البشري في الواقع من أجل تحقيق تقدم جاد في تعزيز البراعة الفكرية للجنس البشري، لقد ذكرنا بالفعل كيف يتم استخدام TDCS لتعزيز قدرة الدماغ، وكما رأينا في السنوات الأخيرة أظهر الرياضيون بالتأكيد فاعلية المنشطات الجسدية.
وبسبب هذا التجاور المتناقض -البطء التاريخي للتطور البشري والمجتمعي مقابل الوتيرة السريعة للتكنولوجيا الحديثة- يجد الكثيرون أن ما بعد الإنسانية أمر غير مستساغ.
بعد كل شيء، فإن تعريف ما بعد الإنسانية لا يزال تقريباً غير مفهوم وغير واضح وضبابياً، كما يحدث مع معظم التقنيات الناشئة، هل تعتقد أن أجهزة التلفزيون الأولى لم تتأثر بأجداد أجدادك؟ قبل أن يحصل على اسم "التلفزيون" فقد أطلق عليه أحد مخترعيه اسماً مخيفاً إلى حد ما "الرؤية الكهربائية البعيدة" "distant electric vision"، أيضاً هل يمكنك تخيل المشاعر التي شعر بها الركاب -الخوف والرهبة- خلال الاقتراب من أول القطارات البخارية؟ فقد كانت في نظرهم عبارة عن وحوش ميكانيكية ضخمة، يمكن أن تسحب مئات الأطنان وتتحرك أسرع بكثير من الخيول والعربات المتواضعة.
عدم الارتياح الذي يحيط بالتقنيات التكنولوجية الجديدة ليس جديداً، وقد تم تضخيمه فقط من خلال التسارع الهائل للتكنولوجيا الذي حدث خلال حياتنا.
إذا كنت قد ولدت قبل 500 عام، فإنك لن تواجه تقنية واحدة للتحول المجتمعي في حياتك، اليوم في ظرف 40 عاماً عشنا العديد من التحولات العظيمة، من قبيل إنشاء الكمبيوتر والإنترنت والهاتف الذكي وزرع الدماغ، هذا على سبيل المثال لا الحصر لبعض التقنيات التي غيرت الحياة.
كما أنه من المقلق والمخيف أن يتم سحب البساط بشكل متكرر من تحتك، خاصة عندما يكون مصدر رزقك على المحك، فقط فكّر في عدد الصناعات والوظائف التي تم طمسها أو استيعابها بوصول الكمبيوتر الرقمي.
لكن الخبر السار هو أن البشر قادرون على التكيف بشكل لا نهائي تقريباً، بينما قد ترفض أنت أو أنا فكرة وجود ترابط بين الدماغ والحاسوب الذي يسمح لنا بتنزيل ذكرياتنا على جهاز كمبيوتر، أو ربما تحميل ذكريات جديدة كما حدث في فيلم The Matrix.
لكن بالنسبة لأطفال الغد سيكون العيش من خلال سلسلة من التقنيات التخريبية التي تغير حياتهم تماماً هو القاعدة، في وقتنا الحالي لا تزال هناك بعض المقاومة في تخيل أن أقوم بتثبيت رأسي على هيكل خارجي آلي، ولكن خلال جيل واحد قادم سوف يعتاد الأطفال على رؤية رجل خارق Iron Man ينقذ الناس من حوادث السيارات والطيران.
حقيقة الأمر هي أن ما بعد الإنسانية هو مجرد مصطلح حديث لظاهرة قديمة، فقد عززنا إنسانيتنا -قوتنا وحكمتنا وتعاطفنا- بأدوات منذ عصور ما قبل التاريخ، لطالما شعرنا بالفزع من التقنيات التي تبدو غير طبيعية أو تجعلنا نتصرف بطرق غير إنسانية، إنها ببساطة طبيعة بشرية، لكن كل هذا يتغير مع أطفال اليوم، بالنسبة لهم أي شيء ليس كذلك (محوسب ورقمي) يبدو غير طبيعي، بالنسبة لهم ستبدو النزعة ما بعد الإنسانية مجرد تطور طبيعي، وأي شخص لا يحذو حذوه مثل هؤلاء القدامى الذين ليس لديهم هاتف ذكي، سيبدو غير إنساني تماماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.