تسبَّب العجز المزمن بالموازنة المصرية في توسُّع الحكومة في الاقتراض الداخلي والخارجي، وأخذ الاقتراض الداخلي أكثر من صورة، أبرزها التوسع في إصدار أذون وسندات الخزانة، والاقتراض من البنوك التجارية ومن البنك المركزي رغم التوسع في إصدار النقود.
ومع كبر حجم الدين العام الداخلي وزيادة تكلفته السنوية من فوائد وأقساط، أصبحت تلك الفوائد والأقساط تشكل الإنفاق الأكبر داخل الموازنة المصرية على حساب أوجه الإنفاق الأخرى وأبرزها الاستثمارات الحكومية، ولهذا لم تحقق هذه الاستثمارات الأرقام التي وعدت بها الحكومة في أي من السنوات الماضية منذ تولي الجيش السلطة في يوليو/تموز 2013.
ومع توسع البنوك في شراء أذون وسندات الخزانة وإقراض الحكومة، جاء ذلك على حساب إقراضها للقطاع الخاص، مما أثر على الاستثمار والإنتاج وبالتالي على التشغيل وتوفير السلع والخدمات وارتفاع معدلات التضخم.
وهكذا زادت قيمة الدين العام الداخلي المصري من 1527 مليار جنيه بنهاية يونيو/حزيران 2013، إلى 4742 مليار جنيه بنهاية يونيو/حزيران 2020 وهي آخر أرقام منشورة من قبل البنك المركزي المصري الذي لم يعلن أرقام الدين العام الداخلي خلال الشهور الأربعة عشرة الأخيرة، ومع بلوغ زيادة الدين العام المحلي 460 مليار جنيه بالعام المالي 2019/2020، يمكن تصور قيمته حالياً في ظل التوسع في الاقتراض والذي تشير إليه زيادة قيمة فوائد الدين بالموازنة.
وعلى منوال البنك المركزي سارت وزارة المالية والتي توقفت بياناتها للدين العام المحلي عند يونيو/حزيران 2020 أيضاً، وهو ما يتعارض مع تعليمات صندوق النقد الدولي الخاصة بالإفصاح والشفافية والتي تشكل أحد مكونات الاتفاق معه أواخر عام 2016.
41 % من مصروفات الموازنة للفوائد
لكن الجهات المصرية ستكون مضطرة للمزيد من الإفصاح عن تفاصيل الدين الداخلي، بعد تفعيل اتفاقها مع مؤسسة "يوروكلير" في بلجيكا بإتاحة المقاصة لتعاملات مكونات الدين الداخلي المصري، والتي ينتظر أن يدخل حيز النفاذ خلال العام القادم.
بعد أن كان مقرراً تنفيذه في أكتوبر/تشرين الأول 2019 لكنه تأجل أكثر من مرة لوجود متطلبات من قبل "يوروكلير"، اقتضت إجراء تعديل تشريعي بقانون الإيداع المركزي والمقاصة، والسماح للبنك المركزي المصري بإنشاء شركة للمقاصة بالأوراق الحكومية المصرية بخلاف شركة المقاصة والحفظ المركزي التي تقرر إنشاؤها عام 2000، وإجراء تعديلات بطريقة حساب الضريبة على أذون وسندات الخزانة.
ومثَّلت نتائج أداء الموازنة المصرية خلال الربع الأول من العام المالي الحالي 2021/2022 خير دليل على الأثر السلبي للدين العام المحلي على أداء الموازنة الحكومية، حيث استحوذت فوائد الدين الحكومي على نسبة 41% من مجمل المصروفات مقابل نسبة أقل من 10% للاستثمارات الحكومية والتي تتجه إلى مشروعات الصحة والتعليم والمرافق والبنية التحتية.
وهو ما يعني إطالة مدة تنفيذ تلك المشروعات المقررة بالخطة حتى تتوافر لها الاعتمادات المالية الكافية، ومع عوامل التضخم وزيادة تكلفة تلك المشروعات التي يتم تأجيل تنفيذها، تزداد صعوبة تنفيذها في التوقيتات المقررة، في ظل زيادة نصيب فوائد الدين من المصروفات.
خلال الربع الأول من العام المالي الحالي كان مقرراً بلوغ فوائد الدين 145 مليار جنيه لكنها بلغت 161 ملياراً بزيادة 11%، بينما كان مقرراً إنفاق 89.5 مليار جنيه للاستثمارات الحكومية خلال الربع الأول، لكن ما تم هو إنفاق أقل من 38 مليار جنيه فقط بنسبة تراجع 58%.
ولم تكن الاستثمارات وحدها هي المتضررة من تزايد نصيب فوائد الدين من المصروفات، حيث انخفضت مصروفات باقي أبواب المصروفات بالموازنة، لتنخفض مصروفات شراء السلع والخدمات بنسبة 41%، عما كان مقرراً لها وهي التي تتجه لشراء المستلزمات الطبية بالمستشفيات الحكومية، والمستلزمات التعليمية بالمدارس والجامعات من كتب وتغذية وخلافه، وشراء مستلزمات الجهاز الحكومي من أدوات كتابية وقطع غيار وصيانة وغيرها.
حتى الدعم انخفضت مصروفاته بنسبة 23% عما كان مقرراً، بل لقد وصلت نسبة الانخفاض في مخصصات الدعم الغذائي للبطاقات التموينية والخبز التمويني إلى 39% عما كان مقرراً له.
95% من استثمارات البنوك بأدوات الدَّين
وحتى يتضح الأثر السلبي للدين العام على المواطن، نجد أن فوائد الدين قد حصلت على 161 مليار جنيه خلال الربع الأول من العام المالي الحالي، كما حصلت أقساط سداد القروض على حوالي 148 مليار جنيه، بإجمالي مليار جنيه للفوائد والأقساط 309 مليارات جنيه والتي لا يستفيد منها المواطن في شيء، مقابل 13.3 مليار جنيه فقط لمختلف أشكال الدعم الغذائي من دعم للبطاقات التموينية لأكثر من 60 مليون مواطن ودعم للخبز ولنقاط الخبز ولدقيق المستودعات معاً.
وفي القطاع المصرفي الذي تكالب على شراء أذون وسندات الخزانة سواء لأرباحها العالية المضمونة، أو لتعليمات حكومية خاصة للبنوك العامة بالشراء، ترتب على ذلك بلوغ نصيب الحكومة وشركاتها من الائتمان المحلي، الذي منحته البنوك التجارية في يوليو/تموز الماضي نسبة 67.5% من الإجمالي، بينما تراجع نصيب القطاع الخاص إلى 22% والقطاع العائلي إلى 10%.
وإذا كان الائتمان المحلي يشمل القروض وشراء أدوات الدين الحكومي، فقد زاد نصيب الحكومة من مجمل القروض التي منحتها البنوك المصرية، من نسبة 6.6 % في يونيو 2013 إلى 36 % في يوليو الماضي، بعد أن ارتفعت قيمة القروض الحكومية من أقل من 36 مليار جنيه، إلى 1 مليار و19 مليون جنيه خلال نفس فترة المقارنة.
بل لقد وصل النصيب النسبي استثمارات البنوك المصرية -بخلاف البنك المركزي- في أدوات الدين الحكومي، من أذن وسندات نسبة 94.8% من مجمل استثماراتها في يوليو الماضي، وذلك على حساب استثماراتها في الشركات سواء الحكومية أو الخاصة أو مشاركتها في تأسيس شركات جديدة، وهو ما يؤثر على التشغيل والإنتاج.
ونظرا لإنفاق الحكومة ما تقترضه في مجالات غير إنتاجية كسداد الأجور، وشراء السلع والخدمات لإدارة دولاب العمل بالمصالح الحكومية ودعم السلع والخدمات، فقد تحول هذا الاقتراض من وسيلة لسداد عجز الموازنة إلى وسيلة لتوليد العجز بالموازنة، نظراً لما يتكلفه الدين من فوائد وأقساط بلغ نصيبها النسبي من الإنفاق بموازنة العام المالي الحالي 47%، مما يضطر وزارة المالية للمزيد من الاقتراض لسداد تلك الفوائد والأقساط، وهكذا تستفحل دوامة العجز والاقتراض المتتالية.
تسرب النقد الأجنبي للخارج
ومن المخاطر أيضاً شراء الأجانب لتلك الديون الداخلية في صورة أذون وسندات خزانة، حيث يتم تسرب النقد الأجنبي المحدود أصلاً خلال عمليات إخراج الأجانب لقيمة أرباحهم التي يحولونها إلى دولارات، والناتجة عن مشترياتهم لأدوات الدين المصري.
وهو أمر ستستزداد مخاطره مع الاشتراك في مؤسسة يورو كلير بالتعامل بيعاً وشراء في أدوات الدين الداخلي المصري من خلالها، والتي تعني إمكان استيلاء الأجانب على الأصول المصرية الحكومية في حالة الفشل في سداد تلك الديون عند حلول آجالها.
إلى جانب الارتباك الذي تُحدثه حالات الخروج الجماعي للأجانب من أدوات الدين الحكومي المصري، مثلما حدث خلال أحداث يناير/كانون الثاني 2011، وأيضاً عام 2014 وكذلك بعد ظهور فيروس كورونا العام الماضي، مما يؤدي لانخفاض الاحتياطيات من النقد الأجنبي، وهو ما يضغط على سعر الصرف للجنيه المصري تجاه الدولار الأمريكي.
كذلك توجد مشكلة التعثر المزمن للعديد من الجهات الحكومية المصرية، كهيئة السكة الحديد والهيئة الوطنية للإعلام (ماسبيرو) وغالبية شركات الغزل والنسيج الحكومية والشركة القابضة لمصر للطيران وغيرها، والتي تستمر في الاقتراض رغم عدم التأكد من إمكانية نجاحها في سداد تلك القروض، لنقص إيراداتها عن مصروفاتها وكثرة العمالة بها.
وها هي الشركة القابضة لمصر للطيران رغم حصولها على قرض مساند من وزارة المالية، في مايو/أيار 2020 بقيمة 2 مليار جنيه لسداد أجور العمالة، ثم حصولها على قرض من بنوك عامة محلية بقيمة 3 مليارات جنيه في أكتوبر/تشرين الأول 2020، قد حصلت مؤخراً على ضمان وزارة المالية لها لاقتراض 5 مليارات جنيه أخرى.
ونظراً لبلوغ عدد العمالة بها 35 ألف عامل، ووجود أقساط شراء طائرات عليها وحاجتها لدفع قيمة الوقود بالمطارات الخارجية، ونفقات عمليات الصيانة فسوف تستمر في الاقتراض، خاصة أنها ظلت لسنوات تحقق خسائر قبل ظهور فيروس كورونا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.