عادة ما تتنافس الأجهزة المختصة برسم وتنفيذ السياسة الخارجية للدول المعاصرة، ولذلك يوجد في العديد من هياكل أنظمة الحكم منصب مستشار الأمن القومي، الذي يختص بتقدير المواقف السياسية والتنسيق بين الأجهزة المعنية، مثل وزارات الخارجية والدفاع والداخلية وأجهزة الاستخبارات، ويقدم خلاصات وتوصيات إلى مؤسسة الرئاسة، تهدف إلى الحفاظ على مصالح الأمن القومي، وهو تعبير يدور حول حماية الدولة من كافة الأخطار الداخلية والخارجية.
في الحالة المصرية نجد أن الرئيس الراحل السادات استحدث منصب مستشار الرئيس للأمن القومي لمدة ثلاث سنوات فقط، من عام 1971 إلى 1974. واختار لهذا المنصب محمد حافظ إسماعيل، الذي سبق له العمل وزير دولة للشؤون الخارجية، ثم رئيساً للمخابرات العامة لمدة سنتين، إذ جمع بين خبرة مؤسسة الخارجية والمخابرات، وتشكل مكتب حافظ إسماعيل في الأمن القومي من مجموعة من كوادر وزارة الخارجية والمخابرات العامة والحرس الجمهوري وبعض المتخصصين في الاقتصاد من وزارات أخرى.
لكن مع إلغاء السادات لمنصب مستشار الأمن القومي عادت الملفات الخارجية مجدداً لتكون من اختصاص وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة كأذرع تنفيذية، لا يزيد دورها في أفضل الحالات عن تقديم توصيات دون أن تنخرط في رسم السياسة الخارجية، حيث ظلّ هذا الموضوع في يد مؤسسة الرئاسة فقط من عهد عبدالناصر إلى عهد مبارك، بحسب شهادة وزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط، ولتوضيح الدور المحدود لوزارة الخارجية يروي أبو الغيط في مذكراته المنشورة بعنوان (شهادتي) أن مؤسسة الرئاسة في عهد مبارك كثيراً ما كانت تتصل بشكل مباشر بسفراء مصر في الخارج، لترتيب زيارات الرئيس أو أفراد أسرته دون علم وزير الخارجية، بل وتطلب الرئاسة من السفراء عدم إخبار الوزير بأي أخبار عن تلك الزيارات، في حين أن وزير الخارجية من جانبه يشدد على السفراء بضرورة إخباره بأي زيارات أو ترتيبات تقوم بها مؤسسات الدولة بما فيها الرئاسة، وهو ما يضع السفراء بين نارين.
أما رئيس الوزراء بمصر فليس له دور يُذكر في ملفات السياسة الخارجية، إذ يؤكد أبو الغيط أن وزراء الخارجية المتعاقبين يشددون على أن سلسلة القيادة في مجال السياسة الخارجية تنتهي عند رئيس الجمهورية، ولا شأن لرؤساء الحكومات بها إلا فيما له تأثير مباشر على حدث أو موضوع يندرج ضمن اختصاصات رئيس الحكومة، وهو ما يتسبب عادة في حدوث توترات بين وزراء الخارجية ورؤساء الحكومة.
ينتج عن تلك التداخلات والنزاعات عادة مشاكل يلخصها أبو الغيط، حسب تعبيراته، بالضعف الكامن في مسائل تقييم المعلومات وطرح الخيارات على مستوى أداء السياسة الخارجية المصرية. وقد سعى السيسي لتلافي ذلك عبر تأسيس مجلس الأمن القومي مجدداً في 2014، لكنه لم يؤدِ الدور المناط به في توجيه السياسات الخارجية والتعاون الدولي، بما يحقق مصالح الأمن القومي المصري، بل ولا نجد لمستشارة الأمن القومي فايزة أبو النجا حضوراً يُذكر في الملفات الخارجية، مقارنة بمدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل ووزير الخارجية سامح شكري.
تداعيات التنافس بين وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة
في ظل التداخل بين وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة في الملفات الخارجية تحدث عملية تنافس بين الجهتين، ففي حين أن الكادر الدبلوماسي بوزارة الخارجية يستغرق ما بين 10 إلى 15 سنة من العمل الدؤوب، قبل أن يُتاح له الترقي في السلم الإداري بالوزارة، فضلاً عن قضائه دورياً فترة تتراوح من ثلاثة إلى أربعة أعوام بالخارج، ثم عام أو اثنين بديوان عام الوزارة، من أجل تعزيز وتنويع خبراته، فإن عملية التصعيد في المخابرات العامة تخضع لمعايير أخرى أمنية بالأساس.
وفي ظل رسم سياسات النظام المصري من منظور أمني، فإن خيارات المخابرات العامة تكون مقدمة على غيرها، حتى ولو كانت أقل إلماماً بالملفات المعنية، وهو ما يؤكده أبو الغيط قائلاً (للمخابرات العامة وضباطها وأجهزتها الثقة والاقتناع بأنه يجب أن تُسأل أو أن تدلي برأيها في الكثير من القضايا التي ليست بالضرورة لها بها معرفة وثيقة، وهو الأمر الذي كان يهدد العلاقة بين الجهازين الكبيرين في عملهما بإدارة السياسة الخارجية). بل ونجد أن المخابرات العامة تفرض وصايتها على الخارجية، حيث تفرض مرشحيها لمناصب دبلوماسية مثلما حدث في عام 1989، عقب انقلاب الإنقاذ في السودان، حيث رشحت القاهرة وكيل أول المخابرات العامة مجدي عمر سفيراً بالخرطوم، لكن نظام البشير رفض تعيينه وطلب تغييره. وهو سلوك لم يتغير حيث نلاحظ تعيين نائب رئيس المخابرات العامة اللواء طارق سلام في عام 2017 سفيراً لمصر في أوغندا، في ظل التوترات المصاحبة لملف سد النهضة. كما نجد أن اتفاق تبادل المعلومات العسكرية الذي وقعته مصر مع الجيش الأوغندي، في أبريل/نيسان 2021، جرى توقيعه من الطرف المصري بيد اللواء سامح صابر الدجوي، نيابة عن المخابرات العامة وليس وزارة الخارجية أو الدفاع، وفق ما أعلنته رسمياً السفارة المصرية بأوغندا.
وإن المتابع لأنشطة وجولات مدير المخابرات العامة اللواء عباس كامل خلال العام الحالي على سبيل المثال، يجد أنه يشرف على الملفات الخارجية ذات الأولوية في فلسطين والسودان وليبيا، فضلاً عن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فهو أبرز مسؤول مصري زار واشنطن منذ تولي إدارة بايدن، حيث اجتمع خلال زيارته مع وليام بيرنز، مدير السي آي أيه، وأعضاء بلجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، وناقش معهم ملفات التهدئة في غزة وسد النهضة.
كما أنه أول مسؤول مصري يزور تل أبيب وقطاع غزة ورام الله، بعد معركة سيف القدس، لبحث سبل تثبيت التهدئة وجهود إعادة إعمار غزة، ثم كان أول مسؤول مصري يزور الكيان الصهيوني مجدداً، بعد سقوط حكومة نتنياهو، حيث اجتمع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت، ووزير الدفاع غانتس.
كذلك هو أكثر المسؤولين المصريين زيارة للسودان خلال العامين الماضيين، كما أنه أول مسؤول مصري يزور طرابلس، ويجري بشوارعها جولة ميدانية بعد مباشرة حكومة عبد الحميد الدبيبة لمهامها، كما أن المسؤول المصري الوحيد الذي يحضر رفقة السيسي لقاءه السنوي الدوري مع رئيس الكونغرس، اليهودي العالمي رونالد لاودر، وهو اللقاء الغامض الذي يُعلن دائماً بعد انعقاده أنه ناقش مستجدات عملية السلام في الشرق الأوسط، وعدداً من القضايا المتعلقة بمكافحة الفكر المتطرف.
إخلال الإدارة الأمنية للسياسة الخارجية
يكمن الإشكال في إشراف الأجهزة الأمنية على إدارة ملفات السياسة الخارجية في ضعف قدرتها على فهم الأبعاد الأوسع للقضايا السياسية، والتعامل بمنطق أمني يقدم مصالح النظام الحاكم على مصالح الدولة، ومن ثم عندما ننظر إلى الملفات ذات الأولوية للنظام المصري سنجدها مليئة بالرهانات الخاطئة التي أضرت بالمصالح المصرية، ففي الاتجاه الاستراتيجي الغربي نجد أن مصر راهنت على مشروع خليفة حفتر، الذي فشل في السيطرة على كامل الأراضي الليبية، وجلب إلى ليبيا قوات تركية تدخلت دعماً لحكومة الوفاق، وقوات فاغنر الروسية، التي تدخلت لدعم حفتر، ثم أخذت في توسيع نفوذها بالقارة الإفريقية عبر المدخل الليبي.
وفي الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي لم تنجح مصر في إدارة ملف التفاوض مع إثيوبيا حول سد النهضة، كما أن حالة التوتر بالسودان التي تُسهم في زيادتها أطراف دولية وإقليمية تهدد باندلاع أزمات كبيرة بالمنطقة ستكون مصر أول المتضررين منها، وقد كان من المفترض أن تلعب مصر دوراً إيجابياً بالسودان، تقلل عبره من مساحات عبث الأطراف الأخرى بالملف السوداني.
وفي الاتجاه الاستراتيجي الشمالي تراهن مصر على تحالفها مع اليونان وقبرص، نكاية في تركيا، فيما يخص ملف غاز وثروات شرق المتوسط، رغم أن عملية ترسيم الحدود البحرية مع اليونان تعطي مصر مساحة ومكاسب أقل مما ستكسبه في حال ترسيمها الحدود البحرية مع تركيا.
وعلى الاتجاه الاستراتيجي الشرقي، أخذ النظام المصري في تغيير سياساته العدائية تجاه حماس، بعد أن أدرك أنها تمثل النافذة التي تجعل واشنطن تتواصل معه، بهدف الحفاظ على الهدوء بين الاحتلال وقطاع غزة. وهو ما احتاج النظام عدة سنوات لفهمه وتعديل سلوكه في التعامل معه، وهو تغير أثبت غلبة المنطق السياسي على المنظور الأمني، الذي ينظر لحماس من عدسة العداء لجماعة الإخوان المسلمين، فالسياسة الخارجية لا ينبغي أن تكون رهينة للنظرة الأمنية الضيقة، التي تضع على رأس أولوياتها أمن النظام الحاكم وتتجاهل مصالح البلاد العليا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.