بخطى "انزلاقية"، تخطو حكومة الرئيس نجيب ميقاتي منذ تشكيلها، حتى بدت منذ لحظة التقاط أنفاسها الأولى كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة وابل من الأزمات المستعصية التي أطلقتها مكوناتها باتجاه الداخل والخارج، فارتدّت عكسياً على مسارها المنتظر، وأصابته إصابات في القلب، متسببة بمضاعفة النظرة السلبية للمجتمع الدولي والعالم العربي، بدءاً من تسرب النفط الإيراني للبنان، ومروراً بملف التدخل في القضاء ومحاولات "قبع البيطار" وحالة الشلل التي أصابت اجتماعات الحكومة وليس انتهاءً باجتياح عين الرمانة ومحاولة فرض واقع أمني جديد بفائض القوة والسلاح.
قرداحي وزيادة الطين بلة
وإذا كان الرئيس نجيب ميقاتي يحاول تلقي الضربات المتتالية في صدره محافظاً على سياسة "النفس الطويل" في محاولته السير قدماً باتجاه إصلاح ذات البين الحكومية مع الدول الشقيقة والصديقة، لكن ما قبل 26 أكتوبر/تشرين الأول، على ما يبدو لن يكون كما بعده، بعد مواقف أطلقها وزير الإعلام جورج قرداحي ضد المملكة العربية السعودية.
قرداحي الذي أعلن مراراً تعاطفه مع الحوثيين في مواجهة الحرب السعودية ضد اليمن، أعاد أمس بصفته "وزير الإعلام"، تيار المردة في حكومة ميقاتي تأكيد موقفه نفسه، باعتباره موقفاً نابعاً من قناعات "شخصية" لا تلزمه بالاستقالة من الحكومة أو الاعتذار من السعودية والإمارات، هذا الموقف سيعيد ميقاتي لنقطة الصفر وهو الساعي بكل السبل لوصل ما انقطع مع الخليج العربي وتحديداً السعودية التي ترفض حتى الساعة فتح أبوابها له.
لذا فإن الأزمة الدبلوماسية التي أطلّت برأسها في الساعات الماضية نتيجة ما نُشر من مواقف لوزير الإعلام جورج قرداحي، زادت في الطين بلة وخرقت الاهتمامات الموزعة على بقية الملفات وأجبرت رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي على عقد لقاء طارئ لم يكن في الحسبان؛ للبحث في سبل تجاوز هذه الأزمة ونتائجها على مصير الحكومة، كأنّه لا ينقصها ما تعانيه من وجوه النزاع الداخلي التي انفجرت في جلستها الأخيرة حول ملف المرفأ والتحقيقات والبيطار وزادتها أحداث غزوة عين الرمانة.
نبيه برّي وحزب الله والتسويات
في ضفة أخرى يستمر رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، في البحث عن صيغة تسوية تمنع التصعيد السياسي معطوفاً عليه الأمن. وهو يبدو أمام كل زواره على أنه لا يود الدخول في أزمات جديدة تفجر البلد، ولا بد من إيجاد حلّ.
فيما حزب الله يقول إنه يفوض الرئيس نبيه برّي من منطلق المصير المشترك في هذه المواجهة القاسية والمفتوحة، لكن الحزب إياه لا يتخلى عن النظر في حادثة الطيونة على أنها ضربة يصعب نسيانها، وسيذهب بها سياسياً وقضائياً إلى النهاية، وإن لم تكن نتيجتها تطال رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، بشكل مباشر؛ في محاولة لتكرار تجربة عام 94 بعزل "القوات" وسجن قياداتها وتركيب الملفات.
ووفق ما يقوله المحلل منير الربيع، فإن مصالح حزب الله تتقاطع مع مصالح الرئيس برّي في مبدأ الحفاظ على الاستقرار، إلا أن حزب الله لن يفرّط في أي ورقة تصل إلى يديه لمواجهة خصومه، ولممارسة أقصى الضغوط عليهم، في سبيل تطويقهم وإضعافهم، والوصول إلى معادلة سياسية يثبتها بنفسه، وتقوم على قاعدة منع أي طرف معارض له من أن يكون قادراً على مواجهته.
لذلك، ووفقاً للربيع، سيبقى مصرّاً على تحقيقات الطيونة كنوع من الضغط على جعجع، وكمساعدة لحلفائه المسيحيين، خصوصاً التيار الوطني الحرّ.
كذلك تتقاطع مصالح حزب الله مع برّي حول ضرورة إيجاد مخرج لقضية تحقيق تفجير المرفأ، ومصير القاضي طارق البيطار. إنما هنا تتعارض مصلحة حزب الله مع رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحرّ، اللذين يتمسكان بالبيطار ومساره.
باسيل خلف الكواليس
بالمقابل يعتقد الربيع أن مصلحة حزب الله تلاقيها مصلحة أخرى لرئيس الجمهورية والتيار الوطني الحرّ، اللذين يريدان توجيه أكبر كمّ من الضربات لجعجع، خصوصاً على أبواب الانتخابات، وفتح كثير من الملفات له، وصولاً إلى حدّ اعتبار أن مصالح جعجع تتقاطع مع مصالح رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
وهذه معركة سيخوضها باسيل إلى النهاية؛ في محاولة لإعادة تعزيز وضعه سياسياً بالشارع المسيحي. ولذلك، يستمر رفض التيار ورئيس الجمهورية لأي مسعى يقوم به البطريرك "الراعي" لمعالجة حادثة الطيونة.
وأيضاً يرفض عون وباسيل مبدأ المقايضة بين الطيونة وتفجير المرفأ، لأنهما يعتبران أن التحقيقات تستهدف أكثر خصومهما، أي علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، برمزية قربهما من نبيه برّي وسليمان فرنجية. وبالتالي، عون وباسيل يستفيدان من هذه التحقيقات، في الصراع المفتوح من قِبلهما والتنافس مع "أمل" وتيار المردة على الفوز بالعلاقة مع حزب الله.
البطريرك في قلب الحدث
وبعد أحداث الطيونة-عين الرمانة، هب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي للقاء المسؤولين السياسيين انطلاقاً من دعوته لهم إلى تحمّل مسؤوليّة ما يمكن أن تؤول إليه أمور البلاد في حال استمرار الشحن الطائفي، والتقى الرؤساء الثلاثة عون وبري وميقاتي، وسبق لقاءاته طلبُ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، القاضي فادي عقيقي، الاستماع إلى رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وفور إعلان الخبر أبدت أروقة بكركي انزعاجها واعتبرته ظلماً بحقّ "رئيس حزب مسيحي"، وانعكس ذلك في عظة "الراعي" الذي قال: "إذا كانت الدولة سائبة فنحن لسنا سائبين".
وخلال لقاء "الراعي" مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي على مأدبة الغداء التي أقامها بري على شرفه، طرح بري على "الراعي" مسودة لحلّ ملف المرفأ وهو الذي طالما كان موجوداً في أدراج مجلس النواب، وهو "حلٌّ دستوريٌّ من قلب البرلمان". ينصّ الحلّ على إخضاع الوزراء للتحقيق في المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء مقابل استكمال قاضي التحقيق طارق البيطار عمله مع الآخرين.
ووجد "الراعي" في هذا الطرح الدستوري باباً للخروج من الأزمة الراهنة. فعبّر عن استعداده لمناقشته مع رئيس الجمهورية في بعبدا. وهكذا حدث. فكان مفاجأة للمقرّبين من البطريرك، إضافة إلى "القوات اللبنانية" التي لم تكن على اطّلاع على ما ستتطوّر إليه الأمور في لقاء "الراعي" مع المسؤولين.
بنود المبادرة للخروج من المأزق
واتفق على تسويق المبادرة على الشكل التالي:
أولاً: محاكمة الرؤساء والوزراء في قضية المرفأ عبر مجلس النواب، من خلال تفعيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ليأخذ دوره في محاكمة مَن طلبهم المحقق العدلي وادعى عليهم من رؤساء ووزراء في جريمة تفجير مرفأ بيروت، ويصبح ملف هؤلاء كاملاً بعهدة مجلس النواب.
ثانياً: لا يتدخل المحقق العدلي طارق البيطار فيما يقوم به المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والمؤسسات الدستورية، ويستمر في تحقيقاته بكل الأمور الأخرى وصولاً إلى إصدار القرار الظني.
ثالثاً: وبالنسبة لملف أحداث الطيونة تقول المبادرة بضرورة إبعاد الجيش والمحكمة العسكرية والقوى الأمنية عن الصراع السياسي المحتدم والمتصاعد، لاسيما بعد حادثة عين الرمانة-الطيونة، بمعنى أن أي إجراء قضائي يجب أن يبقى في حدود المتورطين المباشرين في ساحة المواجهة من دون أن يطال القيادات التي يتبع لها هؤلاء، مع ترك المؤسسة العسكرية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الأخرى تقوم بما تراه مناسباً لمنع تكرار ما حصل مهما كلف الأمر، ما يعني سحب مذكرة استدعاء رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، للتحقيق.
وبناءً على كل ما تقدَّم، يبدو أن الطريق إلى حلّ أي من هذه المشكلات أمرٌ ليس سهلاً. فالتعقيدات في المواقف السياسية وتشابكها مع ما هو أمني وقضائي ودستوري وعدلي أفرزتها تداعيات المرفأ ومعركة الطيونة وما بينهما من محطات تصارع سياسي ومالي وميداني.
والوقائع توحي بأن كل ما يجري يهدف إلى طمس الحقائق المتعلقة بتفجير المرفأ ومعها جهود القاضي طارق البيطار، والتعمية على تحقيقات الطيونة في ظل التسريبات المشبوهة لما انتهت إليه، من أجل تعويم فشل قوى السلطة التي أسقطتها التجارب السابقة على حساب الأمن والقانون والدستور، وما يتمناه اللبنانيون، ومن ضمنهم أهالي الضحايا وأولياء الدم إلى أي جهة انتموا.
رحم الله الضحايا وأعان طارق البيطار وألهم أولياء الدم الصبر على هذه السلطة المتقاتلة!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.