إذا كنا نريد الحديث عن ليبيا ومحطاتها السياسية في العقد الأخير لابد لنا أن نتطرق إلى الأربعة عقود التي قبلها والتي حكمها العقيد القذافي بالحديد والنار، الشعب الليبي في تلك الفترة لم يعرف شيئاً عن الديمقراطية وأدواتها السياسية، بل تشبع بشعارات "لا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية، والثروة والسلطة والسلاح في يد الشعب" التي كان يطلقها القذافي ويرددها ليلاً ونهاراً حتى أصبحت جزءاً من شخصية الشعب، ولكن دون تطبيقها، لأن السلطة وقراراتها كانت محصورةً عليه وعائلته وقليلاً من حاشيته المقربة.
في العقد الأخير وبعد ثورة السابع عشر من فبراير/شباط فُتحت أبواب السياسة على مصاريعها وأصبح الشعب ينادي بالديمقراطية مثلها مثل شعوب الدول التي طالها الربيع العربي، وانطلقت فيها الأحزاب وأصبحت التكتلات السياسية تظهر للسطح بمختلف التوجهات والأهداف وفتحت التخصصات السياسية في الجامعات والأكاديميات التعليمية وارتفع الصوت المطالب بالانتخابات وممارسة حقوقهم الديمقراطية بعد حرمانهم منها طيلة هذه السنين، وما إن استقرت البلاد حتى تم اعتماد الإعلان الدستوري للبلاد والذي أقر بإجراء أوّلي للانتخابات التشريعية.
محطات ليبيا التشريعية
في سنة 2012 شهدت ليبيا أول انتخابات تشريعية في تاريخها ولاقت إقبالاً كبيراً باعتبارها الانتخابات الأولى والمحطة التي كانت ينتظرها الليبيون لعقود لاختيار من يمثلهم، ومع استلام المؤتمر الوطني لمهامه، التي بدأت بانتخابات بنظام القائمة الحزبية، بدأت ملامح الانقسام السياسي شرقاً وغرباً في الظهور، وأصبح الصراع السياسي يشتد، وبالرغم من سلبيات المؤتمر فإنها كانت نقطة التحول في الحياة السياسية بالنسبة لليبيين.
جاءت سنة 2014 وقرر الليبيون الاستغناء عن المؤتمر الوطني العام والدخول في تجربة جديدة وانطلقت الحملات الانتخابية لاختيار جسم تشريعي جديد متمثلاً في انتخابات "مجلس النواب" بالنظام الفردي، ومع نجاح الانتخابات البرلمانية زادت فجوة الصراع السياسي، وبالتزامن معها انطلقت عملية عسكرية في العاصمة طرابلس لتتجمد العملية السياسية ويعقد البرلمان جلساته بمجموعة من الأعضاء في مدينة طبرق مخالفاً بذلك الإعلان الدستوري الذي تنص مادته على أن يكون مقر البرلمان في مدينة بنغازي، وبعد طعون قانونية أمام المحكمة الدستورية أعلنت المحكمة بعدم شرعية البرلمان، وأنه جسم غير قانوني حسب اللوائح المعمول بها.
بعد سنة أو أكثر من الصراعات السياسية "شرقاً وغرباً" أطلقت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا عمليتها السياسية لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السياسية، وبعد العديد من المبادرات وجولات الحوار السياسي، نجحت في الوصول لحل توافقي وتسمية حكومة وحدة وطنية برئاسة السيد فائز السراج تم التصديق عليها بقرار من مجلس الأمن، وبالرغم من معارضة العديد من النخب السياسية، فإنها استطاعت الدخول لطرابلس وتسمية حكومتها وممارسة مهامها ليتفاجأ الليبيون أن حكومة الوفاق الوطني لم تستطع أن تكون حكومة وفاق يتفق عليها الليبيون، بل كانت حكومة للجانب الغربي من البلاد، وموازية للحكومة المؤقتة في الشرق الليبي التي جاءت بقرار برلماني منحل.
استمرت حكومة الوفاق الوطني في ممارسة مهامها مع كل السلبيات على المستوى المعيشي والسياسي، مع كل المحاولات لحل أزمة الانقسام السياسي التي باءت بالفشل بالرغم من كل المبادرات والملتقيات الدولية التي رعتها بعثة الأمم المتحدة وكذلك بعض الدول الأخرى المتداخلة في الشأن الليبي، حتى الرابع من أبريل/نيسان عام 2019 حين أطلق خليفة حفتر عمليته العسكرية ضد الحكومة في طرابلس لتكون هذه العلمية نقطة التحول التي أدرك فيها الليبيون أنه لا يوجد توافق بل أطراف متصارعة على السلطة وشخص آخر يريد أن ينصب نفسه حاكماً على ليبيا بقوة السلاح.
هل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هي الحل للأزمة؟
بعد سنين عجاف تخالفت فيه الأطراف السياسية على مشكلة الشرعية بسبب الحلول الهشة والمؤقتة من المجتمع الدولي والتي تمثلت في تسويات سياسية، يرى الليبيون أن الحل الأمثل هو تطبيق خارطة الطريق السياسي التي جاءت بحكومة الوحدة الوطنية لتذليل الصعاب وتهيئة الظروف لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في موعدها المقرر في 24 ديسمبر/كانون الأول لتنهي حالة التشظي والانقسام التي ألمت بالليبيين.
ومع اقتراب الموعد أصبحت الدعاية السياسية لمن يرغبون في الترشح في ازدياد، بينما المفوضية العليا للانتخابات وهي الجهة المخولة لإجراء الانتخابات قد وصلتها القوانين الانتخابية كاملة وتعمل بجد على ترجمتها لوجستياً وفنياً لضمان سير العملية بالشكل المطلوب، وبحسب آخر مؤتمر صحفي فإنها ستعلن فتح قبول المترشحين في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
بعد التجارب التشريعية الفاشلة، في اعتقادي أن الليبيين اليوم أصبحوا مدركين للوضع الليبي وأصبحوا أكثر نضجاً للبحث والتقصي لاختيار الشخصيات الوطنية أصحاب الخبرات والقادرة على قيادة البلاد وإخراجها من أزمتها، فاليوم الليبيون أمام تحدٍّ جديد وهو التحدي الذي فشلوا فيه، أو دعونا نقول إنهم كانوا أقل نضجاً من اليوم، وهم اليوم قادرون على اختيار من يمثلهم رئاسةً وبرلماناً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.