نقش داريوس العظيم حاكم إيران يوماً، منذ حوالي 2540 سنة تقريباً، فقال: "أنا داريوس، الملك العظيم، ملك الملوك، ملك البلدان التي تتضمن كل أنواع البشر، ملك هذه الأرض الكبيرة والواسعة، ابن هيستاسبيس، الفارسي، ابن الفارسي، الآري، الذي ينحدر من جذور آرية".
هذا الكلام الذي نقشه داريوس بنقوش على الحجر ستعرف بـ"قشي روستام" ناقلاً ثقافة في إيران جيلاً بعد جيل لهذه الثقافة التاريخية التي ستصبح جزءاً من العقلية الإيرانية، فلم يكن غريباً حين قرر شاه إيران رضا بهلوي (1935) بفرض استعمال إيران بدلاً من بلاد فارس وتحديداً في عيد النوروز متماهياً مع ملهمه القائد الألماني أدولف هتلر، محاولاً استمالته لقاسم تاريخي كان يؤمن بأنه يجمعهم وهو العرق الآري.
واستطاع ابنه الشاه محمد رضا بهلوي من خلفه إعادة استنهاض الثقافة الإيرانية بميثولوجيتها، وهو الأمر الواضح من خلال مذكرات زوجته الثالثة فرح ديبا وتركيزها الدائم على البعد التاريخي العميق لإيران، ورغم أن الثورة في إيران (1979) كانت بطابعها إسلامية، فإن الثقافة والعقلية التاريخية هي جزء أساسي من الوجدان الشعبي الذي يتوارثه جيلاً بعد جيل.
العقلية الإيرانية تحكم
هذه المقدمة التاريخية الصغيرة جداً هي الجزء الأساسي لنفهم المفاوضات الإيرانية في فيينا، العقلية والثقافة الإيرانية هي الورقة الأقوى التي تخوض إيران فيها مفاوضاتها وسياستها بشكل عام، فأي مفاوض إيراني يشعر وكأنه يفاوض عن ملوك إيران التاريخيين، مشبعاً بثقافة تاريخية.
استطاعت إيران ومنذ إعادة العمل ببرنامجها النووي -الذي يعود لفترة الخمسينات أيام الشاه وقد كان بإشراف الولايات المتحدة الأمريكية- أن تتبنى عقيدة حياكة السجاد العجمي كما يقول المثل الإيراني، رويداً رويداً يتحول الصوف إلى سجادة، وهو ما راكمته منذ استلام الخميني الحكم بعد الثورة الإسلامية، مروراً بتدخل مجلس الأمن 2006 بقراره الملزم بالفصل السابع الذي حمل رقم 1696 مطالباً إيران بوقف أنشطتها لتخصيب اليورانيوم.
وهو الأمر الذي رفضته إيران واستمرت بحياكة سجادتها حتى ولو تعرضت لعقوبات قاسية من الأمم المتحدة، قرارات جعلتها إيران من خلال سياستها والاستمرار ببرنامجها تبدو وكأنها مجرد أرقام، القرار 1737 (23 ديسمبر/كانون الأول 2006)، القرار 1747 (24 مارس/آذار 2007)، القرار رقم 1803 (3 مارس/آذار 2008)، القرار رقم 1835 (27 سبتمبر/أيلول 2008)، القرار 1929 (9 يونيو/حزيران 2010)، القرار 1984 (8 يونيو/حزيران 2011) .
إلى أين تسير المفاوضات؟
عملياً بمجرد إعادة الأحداث لملف البرنامج النووي الإيراني أصبح من الممكن رؤية الاتجاه الذي تسير به المفاوضات ومعرفة ما الذي يجعل إيران أقوى اليوم في المفاوضات.
أولاً: وبشكل رئيسي الوضع المستقر للسياسة الإيرانية الداخلية تعطي إيران هامشاً من الراحة والقوة في المفاوضات، فالرئيس إبراهيم رئيسي استطاع تشكيل حكومة تلبي طموحاته، وعلاقته ممتازة تربطه بالمرشد السيد علي خامنئي.
ثانياً: العلاقة المتوترة والمتفاوتة في المصالح بين الدول التي تفاوض إيران وبالدرجة الرئيسية علاقة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، خاصة بعد حادثة بيع الغواصات النووية لأستراليا والتي تعرضت فرنسا فيها لصفعة كبيرة من الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً: التقارب الفرنسي الإيراني الذي انعكس على مجموعة من الملفات الإقليمية، والذي ترجم في الساحة العراقية كعقود اقتصادية للفرنسيين بالمليارات، وفي الساحة اللبنانية ترجم بتشكيل حكومة فرنسية-إيرانية.
رابعاً: التقارب الإيراني السعودي، الذي قطع شوطاً كبيراً في بغداد، إذ ينذر بخفض التصعيد وعودة الهدوء للمنطقة، خاصةً للخليج.
خامساً: ورغم نتائج انتخابات العراق النيابية فأوراق إيران في المنطقة حافظت على قدرتها إلى حد كبير واستمراريتها حتى اليوم هو ما يصب في مصلحة إيران الاستراتيجية.
سادساً: يمكن القول إن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية استنفدوا معظم أوراق ضغطهم إن لم نقل جميع أوراق الضغط تقريباً، باستثناء الخيار العسكري، والذي يبدو بعيداً إلى حدٍّ ما، ولكن عملياً اليوم ما الذي يمكن أن يُقدموا عليه؟ عقوبات أخرى؟ والتي تتعامل معها إيران بإصرار وتحدٍّ أكبر.
إيران اليوم أقوى
واقعياً، اليوم تبدو إيران وكأنها تقود فيلاً بيدٍ ناعمة، ست جولات استطاعت أن تخرج من جولة لجولة أخرى، بدبلوماسية الحياكة، خرجت من الجولة السادسة بإيجابية كبيرة عن قرب الوصول لاتفاق حيث قال كبير المفاوضين الإيرانيين عباس عراقجي إن الاتفاق لم يكن أقرب مما هو عليه الآن، ثم غابت المفاوضات عن المسرح لأشهر طويلة في الانتظار جعلت الدول تمل الانتظار فيما يراهن الإيرانيون على عامل التغيير الإقليمي ومصالح الدول المتداخلة من أجل الحصول على مصلحتهم، والتي يشدد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بأن تكون عودتهم إلى المفاوضات مرتبطة بعودة الولايات المتحدة الأمريكية للالتزام بمقتضيات الاتفاق الموقع عام 2015، الذي قيدت بموجبه طهران أنشطة برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية، لكن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب انسحبت منه عام 2018.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.