كنت صغيراً لم أتجاوز العاشرة من عمري، أركب مزلاجي، أتجول في شوارع حيِّنا وفي خيالاتي، أرفع يدي أحيي جيراننا: "هلو عمو، هلو خالة"، وأنا منطلق بلا هدف، أبحث عن صديقي في الشارع الخلفي: حسن، أين أنت يا صديقي؟
ذهب الأصدقاء واختفى الجيران، ذهب عمو وذهبت الخالة، اختفوا خلف أبواب البيوت، أبواب حديدية يعلو بعضها الصدأ، يذكرك بقدم وأصالة هذه البيوت، بقيت وحدي مع شوارع حيّنا، أجول فيها وفي خيالي.
أسمع صيحات الخالات من خلف الجدران، يخبرن أطفالهن بأن يدخلوا البيوت فوراً، وأن يختبئوا من الكاسر، بأن يحذروا الشر المتربص في الخارج.
يا أصدقائي ويا جيراني أين تذهبون؟ وظهر الشر المتربص من خلف الغيوم، يجلب معه الموت والصدى والرعب، يجلب معه ضياءً لم تشاهدوه من قبل، يحمل تحت أطرافه ناراً لم تعرفوها، أعدت لتذيقكم طعم هذا الشر، يجلب معه رعداً هادراً مفزعاً، يجلب معه عوزاً وتشريداً وتيتيماً.
نظرت إلى السماء، أشاهد الشر الحديدي اللامع، كانت طائرة أمريكية من طراز إف ١٦ أو إف ٢٢ أو قد تكون إف ١٥، وما أدراني أنا؟ لم أهتم قبل ذلك اليوم ولا بعده بأنواع الطائرات الأمريكية أو العراقية، نظرت إليها تعلو من خلف غيمة، كانت بعيدة خلف الأفق، وصوتها قريب جداً وكأنها تطير عند أذنيّ.
وقفت أشاهدها، أحاول التوازن على مزلاجي، لا زلت وحيداً في الشارع، لا زالت تعلو فوق الغيم، تخترق السماء وتمر عبرها، لا شيء يقف بوجهها، كانت صافرة الإنذار قد انطلقت قبل قليل ولم أنتبه لها، لم تكن صافرة الإنذار تعني لي الكثير، لم يكن يخيفني سماعها حين كنت صغيراً كما أصبح يخيفني بعد عدة سنوات، لأنني أصبحت أعي أكثر، ما الذي كانت تعني تلك الصافرة وتلك الطائرات؟
كم هي جميلة هذه الرشيقة، ترتفع من خلف الغيمة لتعود إلى الانقضاض كحوت سريع يصعد إلى الأعلى ليغوص مرة أخرى! ها هي تنقض إلى الأسفل، شاهدتها تطلق صاروخاً أو اثنين، ذهبا إلى مستقرهما، يحملان موتاً ودماراً وتشريداً للبؤساء في الأسفل، لبؤساء لم تحمهم أمهاتهم وتدخلهم داخل البيوت المحصنة، وإن أدخلتهم فلن يغير ذلك شيئاً، ستنهار هذه البيوت على رؤوس قاطنيها تحتضنهم، تختطفهم لمستقرهم الأخير.
أعلنت الصافرة المستمرة انتهاء الغارة، واختفت تلك الرشيقة من السماء، ودفعت زلاجتي لأعود إلى المنزل، أمي قلقة كالعادة تقف بالباب، تسألني لماذا لم أعد إلى المنزل قبل الآن؟ ماما كنت ألعب، كنت أشاهد المقاتلة، لا تخافي عليّ لن يحدث شيء لي، إن الطائرة بعيدة ولن تؤذينا، إنها تقصف أناساً آخرين، بشراً آخرين غيرنا، لن يعودوا اليوم لمنازلهم أو لمدارسهم أو لأعمالهم، لن يستيقظوا في الصباح ليشموا صمّونهم الحار للإفطار، لن يقبلوا أحباءهم قبلة وداع، لن ينظروا بعد الآن في عيون أصدقائهم وجيرانهم.
ولكن الطيار سيعود اليوم إلى مقره، سيعود ليأكل وجبة ساخنة دسمة، ليست لذيذة كالتي سيأكلها في منزله، ولكنها ستفي بالغرض في الوقت الحالي، سيعود لينام في فراشه هذه الليلة، أتراه سيفكر بأولئك الذين أرسلهم إلى جنة الفردوس، وكيف سترفرف أجنحتهم لترفعهم إلى السماء؟ سيعود غداً ليرى ابنه ويحتضن امرأته، يحكي لها ولأصدقائه عن بطولاته، ويعطي ابنه لعبته، طائرة إف ١٦.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.