من تابع ويتابع الأحداث هنا وهناك ابتداءً من اجتماع أبوظبي يناير/كانون الثاني 2021 بين المتصارعين في ليبيا، ومروراً بمؤتمر غدامس الجامع الذي كان يسعى لإنشاء حكومة موحدة بين شرق البلاد وغربها، وتحديداً بين الصقور والكيانات التي حجزت لنفسها أرضية على الخارطة الليبية برعاية أممية، يجد أن الحرب أو العدوان على طرابلس أفشل كل هذه المساعي، كما أن التصدي الرهيب للحملة أدى إلى استحالة تحقيق أي من الطرفين حسماً عسكرياً، أو أن تقبل مجتمعات وحاضنة هذا الطرف مقابل الطرف الآخر.
تشعبت مآلات الحرب وظهر المرتزقة علناً في جنوب طرابلس، بل إن قوات الوفاق قنصت العديد منهم واستحوذت على جثة أحدهم، على جانب آخر طلبت حكومة الوفاق دعماً من دولة تركيا وافق عليه البرلمان التركي وتحركت قوات تركية باتجاه ليبيا وهو ما أربك المشهد أكثر وأكثر.
حاولت موسكو وأنقرة إنقاذ الوضع والقيام بمناورة سلام ترعاها كما حصل في شمال سوريا وبين أذربيجان وأرمينيا وغيرها من المواقع المعزز فيها تواجد الدولتين، ولكن اجتماع موسكو في منتصف يناير/كانون الثاني 2020 بين تركيا وروسيا من جهة، وحفتر والسراج من جهة أخرى، فشل فشلاً ذريعاً بسبب غياب توافقات في أمور جوهرية بين الطرفين، وربما بسبب ضغط أمريكي، وهذا المرجح لإفشال اللعبة.
كانت محاولة روسيا وتركيا قبل أيام معدودة من مؤتمر برلين، الذي كان في أوج استعار الحرب بين الطرفين، إذ انعقد مؤتمر برلين الأول في 19 يناير/كانون الثاني 2020، والذي خرج بخارطة تبنتها دول فاعلة في الملف الليبي ومجلس الأمن والبعثة الأممية، وكان الحديث يدور عن وقف إطلاق النار والوصول إلى حكومة موحدة توصل الليبيين لانتخابات رئاسية وبرلمانية، توحد البلاد وتوحد المؤسسات وتساهم في توزيع الثروات وإلغاء المركزية، وغيرها من الإصلاحات في المسار الاقتصادي والأمني والدستوري وغيرها.
من رأى وقتها مؤتمر برلين أيقن أنه لم يكن سوى فعالية لعرض أزياء أو منتدى لتبادل الأحاديث والأفكار.
فبعد توصيات برلين وتحديداً في مارس/آذار بدأت المتغيرات العسكرية تظهر على الأرض، وتحديداً في مايو/أيار انسحبت قوات الكرامة انسحاباً أشبه بالكامل من محيط طرابلس والجبل الغربي، وجرى ما هو أشبه بالهدنة غير المعلنة ولو شابها بعض الاشتباكات على محيط سرت أوائل يونيو/حزيران إلا أن الأوضاع هدأت بعد ذلك بسبب حجم الخسائر الكبيرة وحصول التوازن العسكري بين الطرفين.
كيف يبقى الوضع كما هو عليه؟
من جانبها حاولت دول عدة فتح مسارات جديدة، لكن برلين ظل صامداً برعاية أممية وتخطيط أمريكي وتنفيذ ألماني، فإيطاليا حاولت عدة مرات إيجاد أرضية بين السراج وحفتر يكون فيها السراج رئيساً للبلاد وحفتر وزيراً للدفاع أو صاحب منصب عسكري رفيع، وتولد حكومة جديدة من رحم هذين الطرفين لتطبق اتفاق برلين، لكن كل هذه المساعي فشلت.
وتوجهت البعثة لتشكيل ملتقى الحوار السياسي الليبي وبتمثيل كل الفاعلين على الأرض ومن الأقاليم الثلاثة وبأيديولوجيات مختلفة وبتوجهات سياسية متناقضة لتنتج خارطة طريق في المسار السياسي، ولتنتخب حكومة لأجل توحيد المؤسسات وحل المختنقات المعيشية وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في 24 ديسمبر/كانون الأول.
انتخب المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة في بداية فبراير/شباط 2021 ونالت حكومة الرئيس المنتخب ثقتها من البرلمان في مارس/آذار الماضي، لكن مسار لجنة الـ75 بدأ ينحرف ويبتعد عن إنتاج قاعدة دستورية للانتخابات إلى البحث عن غطاء للتمديد للحكومة والملتقى السياسي الليبي، بالتبعية للبرلمان مجلس الدولة وأصحاب المناصب السيادية.
بينما كان البعض يعمل على الواقع، كان الواهمون يعرقلون ويضيعون الوقت على أنفسهم بأن الانتخابات لن تجرى ولن تقام وكان المجتمع الدولي في كل مناسبة يؤكد على الموعد وعلى الانتخابات وعلى كونها برلمانية ورئاسية وأن مصير البلد بعد 24 ديسمبر 2021 قد يكون مجهولاً، بدون شرعية، مما يحمل تداعيات جمة معظمها غير معلومة النتائج.
فالمجلس الاستشاري في الدولة مثلاً يعيش الوهم ويحاول التهديد والتصعيد ويعيش في عالم الميتافيرس (العالم الافتراضي)، ويعتقد أنه يمثل الغرب الليبي وأنه بإمكانه إيقاف قطار الانتخابات الذي انطلق في برلين وقبل برلين عندما كان المجلس ذاته يناقش بند مرتباته.
ناشطون ومحللون وأعضاء في ملتقى الحوار السياسي وحتى جهات دينية ذات مرجعية واعتبار حاولت إيقاف السيل العارم، ولكن دون جدوى، والسبب هو عدم فهم الواقع، وأننا نعيش داخل منظومة دولة لا نمتلك فيها قرارنا بنسبة الكمال، ناهيك عن أن تاثير هؤلاء النشطاء أو الجهات محدود بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
استفاقة متأخرة لكنها محمودة
وبمجرد الحديث صراحة في مؤتمر دعم استقرار ليبيا عن إجراء الانتخابات في موعدها وبنظام رئاسي منتخب من الشعب، تبددت أحلامهم وأصبحوا يباركون هذه العملية للخوض في سلك الانتخابات، وأخيراً أبصرت أبناء الهرة بعد مُضي ما مضى من الزمن.
السعي نحو حكم ليبيا بالصندوق ما زال أشرف وأنبل من التزوير والتدليس والرشوة السياسية، وأفضل مئات المرات من حكمها بالمغالبة العسكرية أو عبر جنزير الدبابات أو فوهات المدافع.
لم تكن الانتخابات هوس مراهقين سياسيين كما وصفها البعض، بل كان حلم التأجيل هو الكابوس الذي يلتف حول هؤلاء الذين لا يريدون فهم اللعبة، وسيأتون إلى الصندوق بعد أن استنفدت جهودهم لا في حملاتهم الانتخابية، بل لعرقلة الانتخابات وتصوير أوهام أخرى يعدون الشارع مرجعيتها.
لقد فات أوان التأجيل والتغيير، وأصبح الوقت أمام كل من عرقل أسرع من الضوء، فالانهيار السياسي لكل مشروع يسعى لإبقاء الوضع كما هو عليه بات وشيكاً وحقيقياً، فعمر مجلس مصرف ليبيا المركزي 9 سنوات، ومجلس الدولة 9 سنوات، والبرلمان 7 سنوات، وحدِّث ولا حرج.
استفاقة متأخرة من المتأخرين دائماً عن الصخيرات وعن ملتقى الحوار وعن غيرها، ولكنها محمودة على أي حال، كما أنهم مع مشاركتهم في اللعبة السياسية سيبقون يلقون اللوم على الانتخابات إن أصدرت فائزاً من غير مرشحهم، ولن يذكروها بحسنى إذا فازوا بها، وهذا ما رأيناه فترة انعقاد ملتقى الحوار السياسي وكل الطعون والتخوين.
واليوم بعد أن نال من ارتضوه السلطة أصبح الملتقى هو طوق النجاة دون الإشارة إلى شجاعة مَن قاده وأسس له، وسيقال هذا قادماً عن الانتخابات.
سيكون الوقت أسرع مما يعتقد الآخرون، وليبيا لأول مرة تقوم بانتخابات رئاسية، والتحضير لها لن يكون بـ(الكولسة) (كلمة باللهجة الليبية بمعنى عقد صفقات انتخابية) كالعادة، بل سيكون نابعاً من الشعب ووفقاً لإرادته، وإن شتت بين الواقع والأحلام والوعود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.