فيما تنشغل الساحتان الإيرانية والأمريكية بالتراشق الإعلامي، وتبادل الاتهامات، بسبب الموقف من معاودة الجلوس على مائدة التفاوض حول مستقبل طهران النووي ومشروعها الذي يُقلق أطرافاً جمة في المنطقة، وكذلك في أوروبا، يذهب المفاوض الإيراني في الملف النووي، علي باقري، إلى بروكسل، للقاء المفاوض الأوروبي إنريكي مورا لمناقشة استئناف المحادثات في فيينا.
هذه الزيارة الجديدة لـ"علي باقري"، في تقديري، محاولة من جانب طهران لإثبات أنها غير رافضة للتفاوض، بل على العكس، فهي تبذل جهدها وترسل موفدها من أجل العمل على إتمام الملف العالق منذ أكثر من 3 أعوام، وذلك بعد انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي، أو ما تم التعارف عليه باسم خطة العمل المشتركة (JCPOA)، وذلك في مايو/أيار من عام 2018.
لكنّ الواقع يقول إن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لا يرغب في إتمام الاتفاق النووي من جديد، أو على الأقل ليس في عجلة من أمره لكي يجلس مع الأوربيين والأمريكان للتباحث مرة أخرى حول بنود خطة العمل المشتركة، أو البدء في التفاوض حول اتفاق نووي جديد.
رئيسي الذي وصل إلى السلطة وهو ابن "مدلل" للسلطة الحاكمة في طهران، وقد لاقى دعماً وتأييداً مطلقاً من جانب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، لا يرى أن التعويل على البيت الأبيض الآن، وساكنه جو بايدن، سوف يحقق لدولته الكثير في ملف الاتفاق النووي.
ما خطة العمل المشتركة
بالعودة إلى الوراء قليلاً، من أجل إيضاح ترابط النقاط ببعضها، يجب الإشارة أولاً إلى مضمون خطة العمل المشتركة التي تَوافَق عليها كلٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، جنباً إلى جنب مع إيران.
هذه الخطة المعروفة اختصاراً باسم JCPOA، وهي اختصار جملة joint comprehensive plan of action، كانت خطة دولية وافقت عليها إيران ودول الـ 5 +1، أمريكا وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا، وقد خرجت الخطة للنور بعد سلسلة من المفاوضات الضخمة التي استمرت لأكثر من عشر سنوات، ولكن في عام 2013 شهدت تغيّراً جذرياً في موقف إيران من البرنامج النووي، وهو ما مهّد لبدء الاتفاق حول خارطة طريق تتعامل بها الدول الكبرى مع الملف الإيراني.
طهران وافقت على التخلي عن أجزاء من خطتها النووية، مقابل رفع العقوبات المفروضة عليها، وبعد مفاوضات مستمرة، وافقت إيران في 2 أبريل/نيسان 2015، على تنفيذ القيود المفروضة على برنامجها النووي لمدة عشر سنوات على الأقل، وكذلك الموافقة على التفتيش الدولي على مفاعلاتها النووية ومراكز الطرد الخاصة بها.
في سياق متصل، تم الاتفاق على رفع العقوبات بعد أن وافقت إيران على تخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي التي تستخدمها في تخصيب اليورانيوم، من 19 ألف جهاز إلى 6104، وستقوم بتشغيل 5060 منها فقط، ثم بدأ الاتفاق بشكل رسمي في يناير/كانون الثاني 2016، وهو ما تبعه رفع العقوبات الاقتصادية كافةً من على إيران، والتي سبق أن فرضتها أمريكا والدول الغربية منذ 1979 وحتى تاريخ تفعيل الاتفاق.
ما الذي حدث لكي تتراجع خطة العمل المشتركة؟
لم يكن الأمر سهلاً على طهران كما كانت تتوقع، لكنّ شخصاً قادماً وبقوة من الخلف لا يعبأ به المتابعون ولا حتى الجانب الإيراني، كان يُرتب لنسف عشر سنوات من المفاوضات الشاقة والمعقدة بين إيران والدول الغربية وواشنطن، فقد بنى دونالد ترامب خطابه الانتخابي في الأساس على نبذ ومحاربة المشروع الإيراني في المنطقة، واتهام باراك أوباما بالانسحاب من الشرق الأوسط، والتفاهم مع الجمهورية الإسلامية، ورد أموال طهران المجمدة إليها، وهو ما سيُهدد مصالح واشنطن في الشرق الأوسط.
هذا الخطاب التابع لترامب تلاقى مع طرفين هامين، الطرف الأول هو الجمهور الأمريكي الذي انبهر بهذا الخطاب التهديدي والمتطرف والجديد في الساحة الأمريكية، وفي ظل ارتفاع وتيرة الوجود اليميني المتطرف حول العالم كان المناخ يصنع من ترامب بطلاً للمجتمع الأمريكي، ما يُهدد معه ما حققته طهران.
الطرف الثاني هو الدول الخليجية، إذ كانت تتخوف بعض الدول الخليجية، وفي الحقيقة مازالت، من أن تنطلق طهران من هذه المكاسب التي حققتها في الاتفاق النووي لكي تتمدد في المنطقة وتهدد مصالح دول خليجية، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك، إذ كانت طهران أحد الأطراف التي صنعت الحروب بالوكالة في المنطقة، وهددت السعودية، انطلاقاً من اليمن، وكذلك دول أخرى، انطلاقاً من تعقّب وعرقلة الملاحة في مضيق هرمز.
قفزاً لمايو/أيار 2018، انسحب دونالد ترامب من الاتفاق النووي تلبيةً لجمهوره الأمريكي الذي وعده في الانتخابات، بالانسحاب من خطة العمل المشتركة، وكذلك دعماً لبعض الدول الخليجية التي دخلت معه في شراكات عسكرية ضخمة، من أجل أن يمضي الرجل قدماً في محاصرة إيران اقتصادياً وكذلك عسكرياً.
أين نحن الآن؟
رحل ترامب وجاء الديمقراطي جو بايدن، الذي سعى لإخماد الحرائق التي أشعلها ترامب في الشرق الأوسط، فكان الضوء الأخضر للرياض لكي تدخل في مفاوضات سرية في 4 جولات مع طهران، برعاية العراق، ثم اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وكذلك السماح للقاهرة بلعب دور واضح في الحرب على غزة في الأشهر الماضية.
كل السياسات السابقة التي تبنّاها الديمقراطيون استغلتها طهران بشكل واضح، في تمديد سياساتها في الشرق الأوسط، بل والتمنع عن المضي قدماً في إنجاز ملف الاتفاق النووي، الذي كان يعول الكثير من المتابعين على قدرة بايدن في حسمه في أشهره الأولى من الحكم، لكن رئيسي ونظامه الجديد لا يريدان ذلك، أو على الأقل ليس الآن.
بل إن بايدن وفي سياق رغبته في البحث عن سقف من الشروط المقبولة لإدارته، وكذلك لإيران، رحّب بدخول إيران في مفاوضات ومحادثات في فيينا، في أبريل/نيسان 2021، بل ودعم هذه المفاوضات، جنباً إلى جنب مع الصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا، لكن وصول رئيسي إلى السلطة عرقل هذه المفاوضات.
حتى إن الاتحاد الأوروبي وعلى لسان مسؤول كبير، قال يوم الجمعة 15 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إن إيران غير مستعدة للعودة إلى المحادثات بشأن برنامجها النووي.
تلا ذلك ما قاله المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، روبرت مالي، للصحفيين في الساعات القليلة التي سبقت كتابة هذا المقال، بأن هناك مخاوف "عميقة ومتنامية" من استمرار تعنت إيران ورفضها الالتزام بموعد لاستئناف المفاوضات في فيينا، وإن واشنطن وحلفاءها يفكرون في بدائل للمسار الدبلوماسي، وقال "نحن في وضع حرج في هذه المرحلة، من الصعب العثور على تفسير بريء لسبب استغراق هذا الوقت الطويل… يبدو أن "الخطة ب" التي يجري تنفيذها الآن هي الخطة الإيرانية، وهذا شيء يجب أن نكون مستعدين له".
يتراوح مضمون الخطاب الخاص بمجموعة الدول الخمس ومعها واشنطن، ما بين التهدئة وامتصاص غضب الإيرانيين، الذين يريدون نسف كل العقوبات التي كبلت اقتصادهم وتسببت في تراجعه بشكل كبير وواضح طيلة السنوات الماضية، وهو خطاب والأوربيين.
وخطاب الأمريكيين يعتمد في كثير من مفرداته على التهديد الخفي، بأن هناك حلولاً أخرى سوف تحدث لإرغام طهران على الخضوع والجلوس للتفاوض من جديد، وإن كانت واشنطن قد أطلقت بالفعل يد إسرائيل لاستهداف المشروع الإيراني ورجاله، وهو ما حدث في الأشهر الماضية من استهداف أحد كبار رجالات المشروع النووي الإيراني فخري زادة.
لكن يبقى السؤال: ماذا يريد إبراهيم رئيسي؟
يسعى إبراهيم رئيسي من خلال تصلّب موقفه من ملف التفاوض الإيراني إلى إحداث قفزة في بنود الاتفاق النووي الجديد، وليس الاتفاق المبرم في عام 2015، المعروف بخطة العمل المشتركة، فالرجل يريد أن يسجل التاريخ الإيراني له أنه استطاع اقتناص اتفاق جديد من البيت الأبيض الديمقراطي، ببنود جديدة تخدم الملف النووي والاقتصاد الإيرانييين في المقام الأول، وكما استطاع سلفه روحاني أن يحقق إنجازاً تاريخياً سُجل باسمه، وهو اتفاق خطة العمل المشتركة، يريد رئيسي المثل.
لكن عَلامَ يستند رئيسي في تلكُّئه أو عدم اكتراثه بإنجاز التفاوض؟ يستند رئيسي في ذلك على أنه وبعد تعويله على الطرف الأوروبي لكي يدعمه اقتصادياً لمواجهة آثار عقوبات دونالد ترامب عليه، اكتشف أن الطرف الأوربي مقيد بالضغوط الأمريكية، وأنه بعد وعود عدة تتعلق بالدعم الاقتصادي لإيران تخلّى عنها، لذلك كان أمام رئيسي وبشكل جوهري اللجوء إلى الطرف الصيني، واستثمار اتفاق وقّعته بلاده مع بكين، في مارس/آذار 2021، يستمر 25 عاماً بين البلدين، باستثمارات صينية تصل قيمتها إلى 400 مليار دولار، هذه الأموال سوف تستخدم في تطوير البنية التحتية والتكنولوجية والموانئ الإيرانية، وكذلك ستشهد تعاوناً عسكرياً بين البلدين، من خلال ضخ السلاح الصيني لإيران، فضلاً عن التقارب الروسي في ملفات كثيرة، وهي المساحات التي ينطلق منها رئيسي ويطمئن إليها في "مناوشاته" السياسية والإعلامية مع إدارة بايدن.
هنا يجب الإشارة إلى أن الظرف السياسي وحتى العسكري في الإقليم قد تغيّر عما كان عليه في عام 2015، وهي السنة التي أبرمت فيها إيران الاتفاق الخماسي بجانب أمريكا حول الاتفاق النووي، لكن الآن، فالمنطقة وبشكل واضح تتمدد فيها طهران، بل وتفرض شروطها، سواء في الخليج أو في العراق أو حتى في سوريا، رغم ما تعانيه من أزمات اقتصادية طاحنة، وما تواجهه من حرب سيبرانية ضخمة من جانب إسرائيل، وبالتالي فإن النظام الإيراني يرى أنه يتحرك من نقاط قوة يجب البناء عليها، من أجل تحقيق شروطه في اتفاق نووي جديد في القريب، وهو ما نتوقعه في الأشهر المقبلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.