في أحد المشاهد التي أعادت للأذهان الحرب الأهلية اللبنانية، اشتعلت مواجهات الأسبوع الماضي بين الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) من جهة، وأهالي عين الرمانة وحزب القوات اللبنانية من جهة أخرى، على اختلاف الروايات.
سبقت المواجهة العسكرية أخرى سياسية، تمترست فيها الأحزاب المسيحية الرئيسية خلف قاضي التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، ووجه الثنائي الشيعي على الجهة المقابلة سهامه نحو القاضي المذكور، متهمينه بتسييس التحقيق.
هذا الصراع الظاهري، وإن أخذ طابعاً مسلحاً، حول قضية التحقيق في انفجار مرفأ بيروت يكتنفه صراع أعمق وأخطر تحت مظلة التحولات القائمة في المنطقة، ومرورها بفترة انتقالية يتحسس كل مكون فيها رأسه.
أين اختفى سنة لبنان؟
في العمق، في ظل هذه الفترة الحرجة يبرز الصراع العميق وهو الصراع على تحديد وجه لبنان بين "الشيعية السياسية" و"الغربية السياسية". شد الحبل العريض هذا يبرز سؤالاً ملحاً: أين اختفى سنة لبنان؟ فقد غاب صوتهم في مختلف القضايا الصغرى منها والكبرى، فلم يكتفوا بالعجز عن التأثير في مجريات الأحداث بل غاب عنهم حتى الموقف السياسي منها.
تتعدد أسباب العجز السني في هذا السياق، ولكنه بالتأكيد نتيجة مسار وتراكمات على الصعيدين المحلي والدولي.
على الصعيد الدولي والإقليمي، أصبح من المسلّمات أن الأحزاب اللبنانية لا تنجح وتستمر بغير راع إقليمي، وكلما تعاظمت قوة هذا الراعي تعاظم نفوذ الحزب المدعوم منه في الداخل اللبناني.
بالنسبة للسنة، لطالما كان الراعي الإقليمي والدولي هو المملكة العربية السعودية، صاحبة النفوذ والمال، والتي لم تبخل عن تقديم كافة أنواع الدعم لزعيم السنة في لبنان رفيق الحريري، ومن بعده ابنه سعد لسنوات طويلة، إلا أن تغيّر القيادة السعودية وتغيّر الظروف الإقليمية والدولية وفشل الحريري -بنظر السعودية- حال دون استمرار ذلك الدعم.
القيادة السعودية الجديدة -المتمثلة في الملك سلمان وابنه ولي العهد محمد بن سلمان، صاحب الكلمة الحاسمة في السياسة السعودية- لم تكن راضية عن أداء عائلة الحريري وهو ما اتضح جلياً بحادثة استدعاء "الرئيس" سعد الحريري للمملكة وإجباره على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة بشكل مفاجئ. ولم يفرج عنه إلا بعد تدخل الرئيس الفرنسي ماكرون شخصياً لإنقاذه من السعودية وإعادته إلى لبنان.
إلى فشل الحريري في ترجمة الدعم السعودي إلى مكاسب سياسية في الداخل، ودعمه الرئيس عون في سباق الرئاسة الأولى عمق الخلاف بينه وبين المملكة، لتحصر القيادة السعودية دعمها اليوم في الساحة اللبنانية بحزب القوات اللبنانية.
تحاول السعودية قدر المستطاع التركيز على شأنها الداخلي والتقنين من الاهتمام الخارجي، وهو ما تجلى حالياً في دفع الولايات المتحدة لمصر والأردن لملء الفراغ الذي تخلفه السعودية في المنطقة. عليه أصبح الدعم السعودي للسنة في لبنان شبه غائب.
إقليمياً طرح الانكفاء السعودي خاصة، والعربي عامة، طرح تساؤلات عن موقف ودور تركيا، القوة السنية الصاعدة في المنطقة، ودورها في لبنان كبديل عن السعودية على سبيل المثال، إلا أن تركيا لم تقرر الانغماس في لبنان واقتصرت سياستها حتى الآن على شقين: الأول، وهو الجانب الاجتماعي الإغاثي والذي أعطاها قبولاً كبيراً في الأوساط السنية. والشق الثاني المتمثل في دعم المؤسسات الرسمية، وهو ما تجلى في عديد المناسبات، أحدها كان تقديم يد المساعدة في ترميم مرفأ بيروت والحفاوة الكبيرة التي حظي بها قائد الجيش اللبناني أثناء زيارته تركيا.
إذاً، فوجهة العرب التي اعتاد عليها سنة لبنان وبعد كل ما واجهته في السنوات الأخيرة انكفأت على ذاتها، فغاب عنها المشروع الجامع، وهو ما جعل السنة في لبنان بلا مشروع حقيقي يقاتلون من أجله عكس باقي المكونات اللبنانية.
ثنائية عون-الحريري
على الصعيد الداخلي، فقد فشلت القيادة السنية في تكوين المشروع السياسي ونسج التحالفات اللازمة له وضاعت في رهانات زعمائها الخاسرة، التي كان على رأسها تكوّن ثنائية عون-الحريري، والتي أفقدت الحريري حلفاءه والدعم الإقليمي والشعبي. وساهمت في تفتت الطائفية وأعطت اليد العليا لحزب القوات ومحوره على الحريري وتياره.
وما هو أهم، فإن هذا الاتفاق لم يستطع تقديم شيء للبنانيين غير الهدر والفساد ليعود هذا التحالف لينفرط عقده مجدداً.
في المحصلة، غياب الداعم الإقليمي والمشروع الكبير وغلبة النزعة الشخصية لدى قيادة السنة وغرقها في الهدر والفساد، وعلى الرغم من محاولتها تشكيل جبهة قيادية ممثلة بنادي رؤساء الحكومات السابقين، فإنها فشلت في صرف تركيزها إلى الجانب الوطني وانحصر تركيزها على صراعات النفوذ داخل هذا النادي.
أما البدلاء التقليديون داخل الساحة السنية، متمثلين بالأحزاب الإسلامية، فإن مشاكلهم أكبر ولا يتسع المجال لتفصيلها هنا.
أما الحركات الجديدة العابرة للطوائف فإن الأنظار منصبة عليها قبيل الانتخابات النيابية، فهل ستستطيع أن تفرز مرشحين ينافسون الطبقة الحاكمة؟ وهل يمكن لحركة شعبية أن ترث الحريرية السياسية التي يراهن الكثيرون على أفول نجمها؟ أسئلة يصعب الإجابة عنها في الوقت الراهن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.