يعرض الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو في كتابه "المقامات: السرد والأنساق الثقافية" ثلاثة ممثلين عن مخلوقات المدينة، وكان نثر الجاحظ في مؤلفاته يتناول المدينة بملمح إثنوغرافي، فيتعرف على طبقاتها وثقافاتها وشخصياتها، واقتصاد الناس المادي والروحي ومللهم ونحلهم ومألوف عيشهم وأمرهم وغريبه، غثه وسمينه، الممثلون المعنيون هنا هم المحاكي والمكدي والقاص.
والمحاكي ليس الحكواتي وإنّما هو من يحاكي نمط شخصية ما، مثل محاكاة الأعمى أو المجنون أو الحكيم، أي هو من يقف في الساحة العامة فيجتمع إليه الناس فيحاكي أو يمثل دوراً ويجسّد شخصيّة، ويُعرف خلال ذلك أو في نهايته أنّه يحاكي أو يمثّل، وأمّا القّاص فهو من يروي وينقل الأخبار والأثر، ولنا عودة إليه.
والمكدي وهو المتسوّل، ولكن صلته بالموضوع من وحي معجم الأسماء والصفات التي يوردها الجاحظ للمتسولين، والتي يستعصي حتى على أهل بغداد في ذلك الزمان معرفة مدلولاتها، فهي أسماء وصفات تستخدم في ذلك الوسط فقط، مثل الإسطيل، وهو المكدي الذي يحاكي الأعمى أو هو المتسول المتعامي.
لكن محاكاة المكدي تختلف جذرياً عن محاكاة المحاكي، فالمحاكي ممثل يمتهن التمثيل، في حين المكدي هو متسول يتنكر وينتحل شخصيات عبر المحاكاة، ولا يُعرف أنّه يمثل إلا في كواليس المجتمع أو في كواليس المقامة.
أمّا القاصّ أو الواعظ الشعبي فيمكن معرفته من خلال سمعته السيئة في التراث عند أهل الحديث والكلام، والقاصّ يقول كيليطو، كان يحاذي المكدي محاذاة غريبة. فالقاص لا يحاكي بمعنى أنّه ينتحل دور المحدث والمتكلم، وإنّما كان من عاداتهم كما تنقل الكتب أنّهم يمثلون، فإذا ذكروا الصراط قاموا وحاكوا محاكاة عبور الهالك والناجي على الصراط.
لم تكن هذه على ما يبدو ظاهرة هامشية، أي ليس الأمر متعلقاً بنوادر المجانين والمتسولين والبخلاء، إنّ الأمر يتعلق بانقسامات عمودية وأفقية في مجتمع المدينة، عاصمة الخلافة زمن الجاحظ، وكذلك في عواصم الولايات في مجال ثقافي مترامي الأطراف متنوّع إثنياً وثقافياً.
يذكرنا كيليطو أنّ السفر هو سيرة راوية وحاكي المقامة، بن هشام والسكندري، إنّهما يضربان في أرض الإسلام، ولما تجاوزاها، بلغا منقطع التراب وأقصى مبلغ السفن، ولكن ذلك لم يتجاوز المعلوم إلى المجهول، لم يتجاوز الثغور أقصى الشرق المترامية كالنجوم التي ليس وراءها إلا العجمة والكفر، أي إلّا الاختلاف الثقافي واللغوي، حيث لا يمكن لابن هشام والسكندري الرواية والمحاكاة. ليس لهما وطن ولا مستقر سوى المجال الثقافي الذي كونّه الإسلام وعربيّة الإسلام.
هذه كانت ظاهرة انقسام ثقافي واقتصادي وسياسي يرصدها الجاحظ والهمذاني والحريري أدبياً قبل ظهور علمَي السوسيولوجيا والإثنوغرافيا، في "الحيوان" و"البخلاء" و"المقامات" والدواوين. في كل ذلك رديم سيسيولوجي، ولنفهم مركزية ذلك علينا أن نتذكر فقط ما هو معروف، ما هو رسمي، ما هو الجد (مقابل الهزل)، وما هو العقل (مقابل الجنون)، العلم الرسمي الذي يتحداه القاص.
فهذا المسعودي يصف العامة وجهلها وهي تسبق إلى من سبق إليها فلا تميز الجد من الهزل، بل إنّ القاص أو الواعظ صار له من الجمهور أكثر من المحدث والفقيه والمتكلم.
ولننظر في شعر المولدين من هذا المنظور، لم يكن انقلاب المولّدين على القصيد العربي على أرذثوكسية القصيدة الجاهلية، مجرّد انقلاب على شكل القصيد وشكل المعنى وأسلوب النظم. هم لم يخرجوا على بحور الشعر الجاهلي بادي الرأي، بل خرجوا على مواضيع الشعر الأثيرة، وعلى صوره المطروقة، فكان أول انقلابهم وأكثره صراحةً على الطلل، لأنّهم فهموا فيه عولمة للشعر العربي في العالم الإسلامي، فهو عولمة ثقافية للصحراء والبداوة العربيّة إسلامياً، فهم لم يسقطوه فحسب، بل تفننوا في السخرية من الطلل والوقوف عليه وفي الحطّ من شأن الطلليات. إنّ المولدين هم شعوبيون، انقلبوا على "صحراء(ية)" الشعر العربي، على "أعرابية" الشعر ككل، لكنهم فعلوا ذلك بلغة عربيّة إسلامية، لغة عربية شعوبية. المولّدون أدباء نقاد استشراق يطوعون اللغة العربية للاستعلاء الشعوبي، يستخدمون لغة عالمية (عالمية الإسلام) ليدخلوا خصوصيتهم الثقافية ويرفعوها إلى مستوى عالمية من جديد، إنّهم فصحاء محبون يكتبون الشعر باضطغان ثقافي. إن النسيب الخمري والمقدمة الخمرية كانت انقلاباً عن التوطن البدوي للقصيد وللشعر، إنّه السكير المترنح بين الدساكر (بناءٌ كالقصْرِ حوله بيوتٌ للأعاجمِ فيها الشرابُ والملاهي، يكون للملوك) حول بغداد، المتبرم من "أخلاق المنتصرين" ويقول شعراً خلاسياً، يمدح المنتصرين باستخدام لغتهم ويدس السم في الدسم، إنّ مولّدية الشعر لم تكن تجديداً شكليا، بل كانت أدباً أقلياً، بمعناه السياسي المحض.
إنّ تلك المنافسة للرسمي لم تتموضع فقط على تخوم الانقسامات السياسية والفكرية الكبرى (أو الرسمية)، أي شيعة وسنة مثلاً، إنّها تأتي من بيئات مختلفة ومتنوعة وغير متوقعة، يوضحها هذا التقارب بين القاص والحاكية والمكدي، إنّ الوضع والدس والكذب والتهويل واللكنة واللحن لم تكن مكراً سياسياً (أعجمياً أو مذهبياً) بالأرثوذكسية السنية (فحسب)، أي مكراً سياسياً بالسلطة السياسيّة وبالثقافة المهيمنة، وإنّما كانت في الغالب تعبيرات عن اختلاط وتناقضات ثقافية (شعوبية) واقتصادية، العفوي والبريء منها أوسع انتشاراً من المؤدلج والسياسي، أو لنقل إنّ المؤدلج والسياسي يتلاعب على هذه التخوم المبهمة، وليس فقط عند منقطع التراب ومنتهى مبلغ السفن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.