لعل أسهل القراءات تلك التي تضع لها معايير جاهزة فتقرر بعدها الأحكام وتصدر بها المواقف، وهي قراءة خطيرة مضللة، فتجارب الأمم والشعوب لا يجوز إغفال ظروفها ومكوناتها وعناصرها والتفاعلات فيها ونتائجها وآثارها الباقية الممتدة.
في السودان ليست القضية بين عسكر ومدنيين، بل بين سياسيين مختصمين متشاكسين، اتفقوا بعد مشاققة ومغالبة، وتفارقوا بعد اتفاق وتفاهم، ولكن بعضهم تجاوز حلبة السياسة واستخدم الأدوات التي اعتادها في معاركه الأولى، وهنا برزت المشكلة القديمة أن منطق العسكر يدور بين النصر والهزيمة، وأن منطق السياسي بين الربح والخسارة كالتاجر في السوق تماماً، وبين هذين المنطقين شقوق حادّة وحُفر مغطّاة!
وتشخيص الأزمة وتوصيفها يعطيك بعض ظلال الحقيقة المخفيّة وراء اللاعبين الكبار في المشهد السوداني المعقّد الذي لا يمكن لأحد أن يحدد لك منتهى اصطفافاته في هذه العاصفة.
لدى الجيش وحلفائه الكثير مما يمكن أن يقوله عن مبررات ما اضطر لفعله، فعيونه الاستخبارية تقف بوضوح على مشاريع تقسيم السودان مجدداً، وأن هذا الخطر بدأ يطل من الشرق، حيث البحر الأحمر رئة السودان والشرق الإفريقي، وأن مؤسسة الجيش هي المؤسسة السيادية الوحيدة في السودان بعد إسقاط النظام السابق بكل مؤسساته، وفي ظل عجز قوى الحرية والتغيير الممثلة للشباب عن إنجاز بنود الوثيقة الدستورية المتعلقة ببناء مؤسسات الدولة الانتقالية، فلم ير المجلس التشريعي النور، ولم تقف المحكمة الدستورية على قدمين، ولم يتشكّل مجلس القضاء، ولا مجلس النيابة العامة، وحتى حلم الثوار بتأسيس حكومة تضم الكفاءات في وزاراتها وسفاراتها ومؤسساتها تنازعتها المحاصصات الحزبية.
وكان الثوار يحلمون بجيش سوداني واحد مؤسس على عقيدة جامعة، ولم تحاول نخبة الثورة من سياسييها الصاعدين التعرف على الجيش من الداخل، ولم يعينوه على مشقة الانتقال، وهو الثقيل بإرثه القديم، وتقاليده الراسخة، واستعجلوا عليه إعادة الهيكلة، وانتقدوا عليه سلوكه وطريقته في مناقشة فكرتها، وسلك بعض المتحمسين ممن تسنّم وظائف الدولة من الثوار مسلكاً قاسياً في نقد الجيش ومؤسساته، وبالغ في إهانته والتشكيك فيه حتى جرح الجيش بكل شاراته ورتبه، فتعاظم الغضب في هذا الجيش واحتشد.
وبلغت الأزمة الاقتصادية منتهاها، واشتدت حلقات الضائقة على الناس، ولم تفلح قرارات المجتمع الدولي الذي حاصر السودانيين منذ منتصف الثمانينات أن يخفف من تدهور معاش الناس واختناقهم حتى بعد استقرار سعر صرف الدولار ورفع العقوبات الاقتصادية وجدولة الديون المتراكمة المرهقة، حتى نادى عامة الناس كل قادر على التغيير أن يفعل ما يريد لينعش أوضاعهم القاسية.
ورغم انقسام قوى الحرية والتغيير واشتداد الصراع بين بعض أجنحتها واصطفاف بعضهم مع منطق الجيش ومعه قطاعات من الإدارة الأهلية والأحزاب المتضررة والطرق الصوفية، ورغم الحاجة إلى إعادة الروح للثورة بتصويب مسارها وإعادة إلى منصات انطلاقها، فإن جمود المواقف كان سيد الموقف حتى ألجأ الأقوياء إلى استخدام سلاح السلطة، ونافرَهم الآخرون باستخدام سلاح الشارع مرة أخرى، وفي كل اجتهاد جديد يندفع الوضع على مزيد من التعقيد.
كانت القراءات كلها تشير إلى أن السودان يسير بسرعة إلى الهاوية، ولكن اجتهادات كل فريق لإنقاذ الحال كانت تتوقف عند اشتباك مصالحه معها فيتأخر الإنقاذ، وينحدر الوضع أكثر؛ وسادت قناعة لدى الطرف الأقوى تنظيماً وتسليحاً أن مساحات الانتظار قد تبددت، وأن النفَس الأخير هو آخر ما تبقّى لهذا الغريق.
نعم، فعل الجيش ما كان يؤجّله ويخشى الوقوع فيه، ووقع في أتون الهجوم المضاد بالشمولية والديكتاتورية واحتكار السلطة وقمع الشعب والردة عن ثورته، ولكنه كان من الخلاف الأول يقول إنه يريد بناء مؤسسات الانتقال، ويريد الانتخابات الديمقراطية، ويريد الحكم المدنيّ الكامل، ولم يتسنّ لأحد أن يتعرّف إلى حقيقة مواقفه المعلنة، وهو الشريك المعترف به في الوثيقة الدستورية، وهو الجيش الذي انحاز لمطالب الثورة، وأطاح بالنظام، ورضي بالشراكة، حتى يستقر الانتقال، وتنضج الخبرة.
لن يمر هذا الانقلاب أو تصحيح المسار مرور الكرام، فهناك فريق عريض ما زال يرى في هذا النمط خطراً على الديمقراطية والحرية، وأن التهاون في إدانته ورفضه سيؤدي إلى ديكتاتورية جامحة ما تزال آثارها قائمة في دول عانت مضاعفات ما بعد الثورات؛ وهؤلاء أنفسهم كان ينبغي لهم ألا يتركوا المجال لعودة هذا النمط، وكانت الفرصة بأيديهم على مدار عامين أن يبنوا مؤسسات الثورة، حتى فقدوا الفرصة، واضطروا للعودة للمطالبة بها بعد أن كان قرارها بأيديهم، ودخلوا بمجتمع الثورة إلى تحدٍّ جديد تحفّه تجربة غير موفقة وغير حاضرة.
ولكن هذا الفريق الذي يمكن له أن يمتد في الشارع قد يجد نفسه محاطاً بشارع آخر خائف أو متضرر أو جائع، وعندما يرى أن أحواله ستظل على ما هي عليه بسبب بقاء من يلومهم على هذه الحال، فإن مهمة الشوارع ستكون أصعب وأقسى وأضعف قدرة على بلوغ النجاح.
وأما المجتمع الدوليّ فغاية ما يستطيعه فرض عقوبات اعتاد عليها السودان، ثم سيطلب حكومة مدنية وانتخابات، وغايةُ ما يعلنه العسكر أنهم يريدون تطبيق ما توافقوا عليه مع المدنيين في الوثيقة الانتقالية، ويريدون إنجاز الانتخابات، ولهذا فإن خطوة الجيش في حقيقتها موصلة إلى ما ينشده هذا المجتمع الدوليّ، وأن الأمر يتطلب الصبر حتى يوليو/تموز 2023؛ وسيكون للشباب قبلها مجلس تشريعي ومحكمة دستورية ومجلس قضاء كما تقول وثيقتهم التي ناضلوا لأجلها.
والعسكر عندما دخلوا هذه المعركة الصعبة فإنهم حشدوا لها ما يستطيعونه من أسباب النصر وفق تخطيطهم، فجميع حركات السلاح الموقعة على اتفاق جوبا تناصرهم، وسلاح القبائل ونفوذها معهم، والأقاليم النائية عن مركز الخرطوم قريبة منهم، وهناك فئات أخّرت خروجها ودعمها حتى لا تنصرف المعركة عن حقيقتها بوجودهم سينضمّون إلى حراك الجيش، وهم طائفة من الإسلاميين الذين شعروا بالغُبن بعد أن عزلتهم قوى الثورة وهم مشاركون فيها، أو طائفة كانت مؤطرة في فكرة جامعة انتقدت سلوك النظام السابق رغم انتمائها إلى مدرسته ولم يُسمَع لها، وهي اليوم تمتلك خبرة قديمة وعضوية كبيرة وكوادر مؤثرة يمكنها أن تلعب في الزمن المتبقي وتغيّر نتيجة اللعب إذا وجدت الفرصة سانحة.
لا شك أن ما جرى بمثابة كسر عظم لا يمكن جبرُه الآن، لكنه أوقف انهياراً فظيعاً لم يستطع أحدٌ أن يصنع شيئاً ذا جدوى لمنع السقوط فيه، وهو في الوقت ذاته خلق فرصة للجميع ليجدوا مخرجاً من هذه المتاهات التي تضغط عليهم والفتن التي تنصبّ فوقهم قبل أن يصبح الحليمون منهم حيارَى محاطين بقوى السيل المتنفِّذ القادر على عبور المجرى وإزاحة كل العقبات المتعارضة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.