من بين أهم ما يقتضيه واجب النضال الصحيح، هو الحفاظ على أصالة المفاهيم التي تؤطر السلوك النضالي اليومي، فالكفاح من أجل سيادة وعي صحيح بقضايا الإصلاح، يؤسس لفعل إرادي متجدد في استكمال مشوار تحرير إرادة المجتمع حتى يستعيد سلطته ويصنع دولته الحاضنة لآماله والمترجمة لحاجياته إلى سياسات فعلية عمومية.
واستحضار سياق هذا المسلسل التحريري لإرادة المجتمع هو ذو أهمية في اغتنام وعي اللحظة حتى يظل مرتبطاً بواقع الحال أولاً، منشداً إلى أفق المآل الذي هو استعادة سلطة المجتمع، وبينهما صيرورة كفاحية تهتم بالتفاصيل وتتدرج في الإصلاح وتحفظ قيمه ومفاهيمه من التبديد والعبثية.
إن السؤال الأساسي الذي ينبغي أن يشد إليه الرحال في تقديري في هذه الصيرورة الكفاحية هو هل تتقدم مسيرة الإصلاح أم لا؟ فالغرض من تحيين وعي اللحظة هو الجواب عن هذا السؤال المركزي، ذلك أن هذا التحيين ينضبط لحال الوقائع بجوانبها الصالحة والفاسدة، ولمآل هذه الوقائع من حيث إحداث تحولات في مساحات الفساد تقليصاً وفي مساحات الصلاح توسيعاً.
حديثنا في هذا المقال وتأسيساً على هذا التصدير، سيكون حول مفهوم المعارضة، ذلك أن هذا المفهوم وما يدور حوله، هو من المفاهيم المركزية التي تؤسس لإدارة التدافع في العملية الإصلاحية على أسس واضحة وجلية، فما معنى المعارضة في إطار سياق هذا المسلسل التحريري لإرادة المجتمع كما بيَّنا سابقاً؟ وكيف ينبغي تحيينه مع استحضار هذا السياق ونتائج الجواب عن السؤال المركزي السالف الذكر؟
أولاً: مفهوم المعارضة
يرتبط مفهوم المعارضة بنوعية قواعد العملية السياسية المتعامل بها على مستوى النظام السياسي القائم، وعلى هذا الأساس ثمة في تقديري نوعان من قواعد العملية السياسية بحسب طريقة تبلورها:
النوع الأول: قواعد متفق عليها مجتمعياً
وهي القواعد التي تتم عبر آلية التوافق المجتمعي العام حول شكل ومضمون النظام السياسي العام، وهذه الآلية تكون نتيجة مخاض يمر به المجتمع قبل أن يستقر على شكل ومضمون الدولة التي يريدها ويبتغيها، ويمكن إجمالها في أربع قواعد كبرى:
1- قاعدة الإشراك الفعلي للمجتمع في طريقة ومضمون صناعة عقده مع الدولة التي يختارها شكلاً ومضموناً، بما يلبي حاجته في أن تكون له سلطة العقد تأسيساً بالدرجة الأولى، وتعود له تعديلاً.
2- قاعدة الإشراك الفعلي للمجتمع في التقرير عبر آلية الانتخابات الحرة والديمقراطية النزيهة، والحرة، حيث الحق في التبلور المنظم للتعبيرات المجتمعية مُصون ومكفول، والديمقراطية حيث الحق في أن تعكس هذه الانتخابات الإرادة الحقيقية للمجتمع، من خلال تمكن من حظي بثقته الانتخابية أن ينفذ برنامجه الانتخابي، والنزيهة حيث الحق في أن تنعكس اختيارات المجتمع من خلال ناخبيه انعكاساً شفافاً على صناديق الاقتراع وأن تكون الإرادة المجتمعية المعبَّر عنها في الانتخابات هي الإرادة العليا للمجتمع التي تصنع القرار وتحدد الاختيارات الكبرى التي تسير عليها الدولة.
3- قاعدة الإشراك الفعلي للمجتمع في التنفيذ من خلال هذه الانتخابات الحرة والديمقراطية والنزيهة التي تصنع أغلبية تمكن الحائزين عليها من تنفيذ برنامجهم الانتخابي الذي وعدوا به باعتبارهم هم من حظوا بثقة المجتمع.
4- قاعدة الإشراك الفعلي في التقويم من خلال الحق في مراقبة من أوكل له المجتمع تنفيذ اختياراته الكبرى التي حددها، والحق في محاسبته على التقصير أو الاعوجاج عن تنفيذ هذه الاختيارات الكبرى.
إذن فإن مفهوم المعارضة في إطار هذا النوع من قواعد العملية السياسية، هو ذاك التعبير المجتمعي المنظم الذي يحرص على مراقبة ومحاسبة السياسات العامة للحكومة التي حظيت بثقة الأغلبية، وهي بذلك يكون مسعاها هو الدفاع عن المجتمع من خلال اتجاهين:
1- مراقبة مدى التزام هذه الأغلبية الحاكمة التي منحها المجتمع ثقته لها بما وعدته به في برنامجها الانتخابي، ومحاسبتها على أساسه.
2- السعي الحثيث إلى إقناع المجتمع باختيارات هذه المعارضة وبرنامجها وتعرية مواطن الخلل والضعف في برنامج الأغلبية، في انتظار جولة المحاسبة العامة المتمثلة في دورة الانتخابات، وذلك بهدف حيازة ثقة المجتمع ببرنامجها واختياراتها حتى يتبناها وتصبح متماهية مع اختياراته وبرنامجه وهكذا دواليك.
النوع الثاني: قواعد إكراهية غير متفق عليها مجتمعياً
وهي القواعد التي تلغي كلياً أو جزئياً الإشراك الفعلي للمجتمع في التقرير والتنفيذ والتقويم، وبالتالي لا ينتج عنها توافق مجتمعي عام حول شكل ومضمون النظام السياسي العام، وهي إذن قواعد تلبي حاجة تزكية واستمرارية هذا الإلغاء وتعمل على تأبيد تغييب الإشراك الفعلي للمجتمع في صناعة مصائره الكبرى، ويمكن إجمالها في قاعدتين اثنتين:
1- قاعدة الإقصاء الفعلي للمجتمع في التقرير والتقويم والتنفيذ.
2- قاعدة الإشراك الفعلي للمجتمع في خدمة الوضع القائم وتزكيته.
إذن فإن مفهوم المعارضة في إطار هذا النوع من قواعد العملية السياسية، هو ذاك التعبير المجتمعي المنظم الساعي سلمياً وتدريجياً إلى تغيير هذه القواعد وإرساء بديل عنها أقرب إلى النوع الأول من القواعد التي تلبي حاجة الإشراك الفعلي للمجتمع في التقرير والتنفيذ والتقويم، ذلك أن الوضع القائم المتسم بسيادة هذه النوع الثاني من القواعد في العملية السياسية، يقتل إرادة التغيير ويؤبِّد حالة الإقصاء الفعلي والممنهج للمجتمع في التقرير والتنفيذ والتقويم، وقد يستعير الأشكال الظاهرية لقواعد العملية السياسية المتفق عليها مجتمعياً (الانتخابات، المؤسسات التشريعية والتنفيذية، المعارضة، الموالاة…) فقط من أجل خدمة استمرار هذا الوضع القائم بالأساس على سيادة هذا النوع، لكن في غياب المضامين التي هي جوهر النوع الأول من القواعد.
ثانياً: خلاصات عامة
يمكن تكثيف الخلاصات الأساسية في حديثنا حول مفهوم المعارضة في التالي: يظل مفهوم المعارضة منشداً إلى حال ومآل العملية الإصلاحية، فحال العملية الإصلاحية يربطها بسياق الراهن الذي هو ذو أهمية في تحيين وعي اللحظة، ومآل العملية الإصلاحية يربطها بأفقها الذي هو استعادة سلطة المجتمع وتحرير إرادته.
المعارضة هو ذاك التعبير المجتمعي المنظم الساعي سلمياً وتدريجياً إلى إرساء قواعد عملية سياسية متفق عليها مجتمعياً في حالة غيابها، وهي أيضاً ذاك التعبير المجتمعي المنظم الساعي الذي يحرص على مراقبة ومحاسبة السياسات العامة للحكومة التي حظيت بثقة الأغلبية، وفقاً لقواعد عملية سياسية متفق عليها مجتمعياً، ونقصد بقواعد العملية السياسية المتفق عليها مجتمعياً، تلك التي تسمو بالإرادة العامة للمجتمع، والمتمثلة أساساً في الإشراك الفعلي للمجتمع في التقرير والتنفيذ والتقويم.
ونقصد بقواعد العملية السياسية الإكراهية، تلك التي تلغي كلياً أو جزئياً الإشراك الفعلي للمجتمع في التقرير والتنفيذ والتقويم، وتؤمن بضرورة الإشراك الفعلي للمجتمع في خدمة الوضع القائم على إقصائه من ساحة التقرير والتنفيذ والتقويم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.