قطع رأس القيادة بالاغتيال والأسر.. كيف صمدت طالبان في مواجهة تكتيكات الاحتلال الأمريكي؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/24 الساعة 08:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/24 الساعة 10:17 بتوقيت غرينتش
أمريكا ستجري أول محادثات مباشرة مع حركة طالبان - رويترز

استخدم الجيش الأمريكي بكثافة ضدّ قادة حركة طالبان تكتيكاً اشتُهر باسم "قطع رأس القيادة"، وهو تكتيك برز للواجهة عقب الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، ضمن الأدبيات التي تناولت استراتيجيات وتكتيكات عمليات مكافحة التمرد، والتي يُقصد بها العمليات القتالية بين الجيوش النظامية والجماعات المتمردة التي تخوض صراعاً عنيفاً لتحقيق أهداف سياسية مثل الاستقلال أو الحكم الذاتي أو تقاسم السلطة، عبر استخدام استراتيجية حرب العصابات.

إن تكتيك "قطع رأس القيادة" يُقصد به قتل أو أسر القيادات المتمردة، بهدف التأثير على استمرارية وتماسك جماعاتهم. وقد دار جدل حول مدى فاعلية ذلك التكتيك، وكان من أبرز مؤيدي استخدام التكتيك المذكور الأكاديمي والباحث الأمريكي بمركز راند "باتريك جونستون"، الذي كتب عدة دراسات مرجعية في هذا الموضوع، اعتمد خلالها على قاعدة بيانات شملت 168 تمرداً، جرت أحداثها خلال الفترة من 1803 إلى 1999. 

وقد اعتمد "جونستون" معياراً لحساب التمردات، يقوم على وجود 1000 قتيل على الأقل في ساحة المعركة خلال نزاع مدته شهر واحد على الأقل، وذلك لضمان أن كل حرب اعتمدها في قاعدة بياناته تُمثّل نزاعاً مستمراً بين فاعلين عسكريين، لا مجرد سلسلة من الانتفاضات أو أعمال الشغب. وقد خلص "جونستون" إلى أن قطع رأس القيادة تكتيك له تأثير جوهري على نجاح عمليات مكافحة التمرد، حيث يرفع الاحتمال المتوقع لانتصار الحكومة إلى 86% بدلاً من 39.9% في حال عدم قطع رأس قادة المتمردين. 

 طرح "جونستون" عدة ميزات لتكتيك (قطع رأس القيادة)، منها إضعاف الجماعات المتمردة بمرور الوقت، ما يجعلها أكثر عرضة للهزيمة من الجماعات التي لا تعاني من قطع الرأس، وذلك باعتبار أن العديد من تلك الجماعات عبارة عن منظمات ضعيفة التنظيم تعتمد بقوة على مهارات وقدرات وكاريزما قادتها المميزين، وهو ما يضعفها بفقدهم. كما جادل بأن النجاح في تنفيذ ذلك التكتيك يشير إلى قوة وقدرات منفذيه ويُضعف الروح المعنوية للمتمردين، ويقوّض عزيمتهم على مواصلة القتال، في ظل إرساله رسائل بأن الدور سيأتي على بقية القادة المتبقين في حال مواصلتهم القتال، وأضاف أن قتل أو أسر قادة التمرد قد يؤدي أيضاً إلى القضاء على المتشددين، ليترك الجماعة في أيدي قادة أكثر اعتدالاً يقبلون بالتفاوض وإلقاء السلاح، فضلاً عن أنه تكتيك يُعيق القدرات العملياتية للمتمردين، حيث يعرقل جهود التخطيط والعمليات، ويَحدُّ من خبرة الجماعة المتمردة عبر تصفية القادة الفاعلين من ذوي الخبرات.

 وجادل جونستون بأن فاعلية تكتيك قطع رأس القيادة غير مشروطة بنوع الجماعة التي يُستخدم هذا التكتيك ضدها، زاعماً أنه لا يوجد فارق مهم بين الجماعات التي تنتظم حول أهداف وطنية أو أيديولوجية أو دينية. وشدّد جونستون على أن قطع رأس القادة في حالة حرب العصابات أمر مُجدٍ، مع التأكيد على أنه لا يعني إنهاء التمرد فوراً، لكن باعتباره أداة مهمة على الطاولة ضمن الأدوات الأخرى التي يمكن أن تساعد في هزيمة التمرد.

تطبيقات عملية ضد طالبان

عندما تأسست حركة طالبان في عام 1994 لم تكن لديها لوائح ونظم داخلية تنظم عملها، بل كشفت مجلة الصمود التي تصدرها طالبان باللغة العربية في عددها المنشور، في أبريل/نيسان عام 2020، عن عدم وجود نظام عضوية بالحركة حتى الآن. وبالتوازي مع هذه الثغرة التنظيمية تعرضت طالبان لضربات مؤثرة عبر مسيرتها، من أبرزها اعتقال نائبي قائد الحركة الملا "عمر"، الملا "عبيد الله" في عام 2007 أثناء سفره إلى باكستان، والنائب الثاني الملا "برادر"، الذي اعتُقل أيضاً في باكستان عام 2010، فهما كانا يقودان الحركة ميدانياً منذ عام 2003 عندما عينهما الملا "عمر" نائبين له، مكتفياً وقتها بإرسال توجيهاته وتعليماته لهما ليتوليا الإشراف معاً على العمليات العسكرية والأمور الإدارية والعلاقات الخارجية، وليؤسسا في عام 2004 للمرة الأولى بعد الغزو الأمريكي لجانا عسكرية وثقافية ومالية وإدارية بالحركة. أي أن القبض عليهما كان بمثابة ضربة قوية لطالبان، ساهمت غالباً في توفير معلومات نوعية لخصومها عن هيكلها وعلاقاتها، وهو ما يُعززه مقتل الملا "عبيد الله" لاحقاً في سجنه عام 2010، وكشف الملا "برادر" عن تعرضه لتعذيب قاسٍ عقب القبض عليه. 

وفي نفس تلك الحقبة اعتُقل المتحدث الرسمي للحركة "عبد اللطيف حكيمي"، كما اعتقل وقُتل المتحدث الرسمي الآخر الدكتور "حنيف". كذلك قُتل أيضاً في عام 2006 رئيس اللجنة العسكرية بطالبان "القارئ فيض الله"، ونائبه "عبد الحنان"، فضلاً عن أربعة من كبار قادة اللجنة المذكورة، التي تعد من أهم لجان الحركة. وكذلك قُتل في عام 2007 الملا "داد الله"، أبرز قائد عسكري ميداني طالباني، وعضو مجلس شورى طالبان، الذي كان يتكون آنذاك من عشرة أعضاء فقط. 

ثم تعرضت طالبان لضربات أخرى أكثر عنفاً بوفاة الملا "عمر" في عام 2013، ومقتل أميرها التالي الملا "أختر منصور" في عام 2016 بقصف طائرة مسيرة أمريكية، فضلاً عن مقتل العشرات من قادة الصفين الأول والثاني في وقت متقارب. ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، قُتل المسؤول العسكري لولاية هلمند الملا "عبد المنان" بقصف جوي أمريكي، وهو قائد بارز سبق اعتقاله عام 2008، عندما ذهب لأخذ عزاء شقيقه بمخيم للمهاجرين الأفغان في باكستان، ثم خرج من السجن في عام 2013، ليقود عمليات الحركة مجدداً في هلمند، ثم في أغسطس/آب 2019 قُتل الملا "عبد الباري"، المسؤول العسكري لولاية فراه، وفي العام ذاته اغتالت طائرة مسيرة أمريكية "القارئ سيف الله"، مسؤول قسم المتفجرات باللجنة العسكرية بطالبان، وذلك بعد سابقة إدراجه عام 2014 في القائمة السوداء، التي ضمت 137 من أبرز عناصر طالبان المطلوبين لواشنطن. كما قتل أيضاً في نفس الفترة أربعة ولاة تابعين لطالبان، بحسب التقرير الحادي عشر الصادر في مايو/أيار 2020، عن فريق الدعم التحليلي، ورصد تنفيذ الجزاءات التابعة للأمم المتحدة، وهم حكام الظل لولايات لوجر وبدخشان وسمنكان ولغمان، ثم في أبريل/نيسان 2020، قُتل حاكم الظل الطالباني لولاية وردك. 

كيف صمدت طالبان؟

رغم تلك الضربات النوعية، نجد أن طالبان لم تضربها الانهيارات على وقع الاستخدام المكثف لتكتيك قطع رؤوس القادة ضدها، وقد ساعدها في ذلك ترسيخها لمنطلقات دينية تحرك كوادرها وتربطهم بمعاني الشهادة والتضحية، ما عمل على شحن عناصرها معنوياً وروحياً، وقلّل من مساحات الانهيار المعنوي التي تُحدثها عمليات الاستهداف الممنهجة، كذلك لعب ضعف مستوى الهرمية والمركزية في الهيكل التنظيمي الطالباني دوراً مهماً في جعل القيادات الميدانية بالولايات قادرة على تعويض الفقد في الكوادر في ساحات القتال، وامتصاص تأثير غياب القادة بالمستويات الأعلى، عبر تصعيد قادة ميدانيين عركتهم الأحداث بدلاً منهم. وقد ساهم أيضاً توسيع دائرة الشورى داخل قيادة طالبان في الحد من قصر عملية صنع القرار و الإمساك بالملفات الحساسة على أشخاص معدودين تنهار الحركة بفقدانهم، وهو ما يمثل إحدى ميزات الشورى عندما تُستخدم بشكل حقيقي.

 ولعل عملية التغيير المتوالية في القيادة ساهمت في ضخ دماء جديدة، عملت على تبني مقاربات ميدانية غير تقليدية، ما سمح بتجاوز عملية التكلس التي تصيب التنظيمات التي يظل يتحكم بمفاصلها أشخاص معدودون لفترات طويلة. وقد ساهمت تلك الإجراءات مجتمعة في إحباط تحقق الأهداف المرجوة من استخدام تكتيك "قطع رؤوس القادة". 

لا تزال تجربة الحرب في أفغانستان مليئة بالدروس التي تحتاج لاستخلاص، وهو ما تعكف عليه حالياً الجهات الأمريكية، حيث تتبارى المراكز البحثية والمؤسسات المختصة في إصدار تقارير ودراسات عن الدروس المستفادة من الحرب الأفغانية، من أبرزها دراسة أصدرها المفتش الأمريكي العام لعملية إعادة الإعمار بأفغانستان، في أغسطس/آب 2021، بعنوان (ما الذي يجب تعلمه: دروس من عشرين سنة لإعادة إعمار أفغانستان)، ودراسة بعنوان (تعلم الدروس الصحيحة من الحرب الأفغانية)، نشرها مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية لأنتوني كوردسمان، الذي عمل مستشاراً لصالح وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين خلال الحربين الأفغانية والعراقية. 

ذلك الاهتمام بدراسة التجارب الفاشلة يُذكر بكلام الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه في صحيح مسلم، بأن الروم "أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرّة بعد فرة".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد مولانا
باحث في الشئون السياسية والأمنية
باحث في الشئون السياسية والأمنية
تحميل المزيد