بعد انتهاء عصر الخلفاء الراشدين، وظهور التجلّي الأول من الدولة الإسلامية كـ"مُلك عضوض"، نشأت الحاجة إلى تطوير أساليب ترسيخ الدعائم الأمنية لتلك الدول، سواء في العهدين الأموي أو العباسي.
تقريباً، لم يخلُ عهد خليفة من جماعة تشكُّ في أحقيته بالحُكم أو أهليته له، أو متمردين رفعوا رايات العصيان على الدولة هنا وهناك، وهو ما أنشأ الحاجة إلى جهاز معلوماتي قوي يمدّ الخليفة القابع في عاصمته بمعلومات وفيرة عن أحوال الأقطار.
بمرور الزمن وتراكم الخبرات، نجحت الدولة الإسلامية في هذه المهمة، حتى بات الخليفة العباسي قادراً على معرفة سعر أردب القمح في خراسان، ومدى ظُلم عمّاله في أقاصي المغرب.
عُرف هذا الجهاز المخابراتي بـ"ديوان البريد"، الذي اعتمد ببساطة على تمهيد طُرق تسمح للخيل، والإبل، والبغال، وأحيانا الحمائم والسفن، بالتحرّك سريعاً لنقل آخر الأخبار من وإلى الخليفة.
لم تفتح هذه الخدمة أبوابها للمواطنين كـ"خدمة عامة"، وإنما احتكرتها الدولة لنفسها لتستخدمها كسلاح يُعينها على البقاء والتلصص على المواطنين.
في شكلها الأكثر تكاملاً؛ اشتملت المنظومة البريدية تلك على مقرٍّ رئيسي في عواصم الأقاليم الإسلامية المختلفة، يقوده رجل يُدعى "صاحب البريد"، اهتمّ كل صاحب بريد ببناء شبكات محلية من المراكز البريدية في كل إقليم، تكفل له تلقّي الأخبار في كافة النواحي بأقصى سرعة ممكنة، ومن ثم إرسالها بوسائل النقل المعروفة في ذلك العصر كالخيل والجمال والبغال، والحمام في الحالات العاجلة.
وكانت الغاية المثلى لكل هذا أن تصبَّ كافة الأخبار من كافة الأصقاع في حِجر قصر الخليفة، حيث تُفرز وتُبوَّب ثم تُعرض عليه وفقاً لأهميتها لاتّخاذ القرارت اللازمة بشأن كل خبر.
الأمويون.. ضربة البداية
ضربة البداية أتت على يدي الخليفة معاوية بن أبي سفيان، الذي وضع اللبنة الأولى لـ"حوكمة البريد"، مستلهماً تجربة البيزنطيين الذين سبقوه إلى حُكم الشام، والذين يمتلكون خبرة كبيرة في هذا المضمار، ترجع إلى عهد الإمبراطور قسطنطين الأكبر (Constantine the Great).
يُروى عن معاوية أنه أحضر رجالاً من الفرس والروم اشتُهروا بتلك الصنعة المخابراتية، وضعوا له الأسس الرئيسية لنظام البريد الإسلامي.
وسريعاً احتلَّ "صاحب البريد" مكانةً هامة في الدولة، وبات الرجل الرابع في كل إقليم من حيث الأهمية، بعد الوالي وصاحب الخراج والقاضي.
اعتمد الأمويون على "منظومة بريد" تشمل تدفق الأخبار عليهم من كافة أنحاء دولتهم، شمل تمهيد طرق خاصة تنطلق فيها خيول البريد السريعة، كما أقاموا محطات دعم على طول هذه الطرق، تُقدّم الرعاية لفرسان الخيل، وخيولاً إضافية حال شعور الخيول الأساسية بالإجهاد من طول المسافة.
وبخلاف دوره الأساسي المتمثل في إطلاع الخليفة على أحوال الإقليم، أصبح "صاحب البريد" في كل ولاية بمثابة رقيب على الولاة، يترصّد أخطاءهم ويسجّل أنشطتهم، ويرفع بها تقاريرَ دوريةً إلى الخليفة؛ ليتّخذ بحقّهم الإجراءات المناسبة.
سريعاً، تمدّد نظام وظيفة صاحب البريد، ولم يعد يقتصر على نقل الأخبار والأحوال، وإنما شمل أيضاً التجسس على المواطنين ومعرفة أخبارهم، وكذلك التلصص على أحوال الفرق العرقية المعادية للدولة.
ولفرط خطورة هذا المنصب، تكالب مؤرخو تلك العصور على وضع الشروط الواجب توافرها فيمن يستحق أن يتولّى هذا المكان. يقول المؤلِّف الحسن بن عبد الله في كتابه "آثار الأُول في ترتيب الدول": "أما البريدية من أصحاب الأخبار والعيون فهم للملوك بمنزلة العيون الباصرة والآذان السامعة، فيجب أن يكونوا في نقلهم محقّقين صادقين، فإن الكذب في هذا العمل يؤدي إلى الخلل العظيم لا يستدرك فارطه".
اشتهر عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز بحساب عمّاله حساباً عظيماً، بفضل تنشيطه جهاز البريد، حتى إن 40 دابة يومياً كانت تفِد إليه تحمل له الأخبار من كافة الأنحاء، وفي عهد هشام بن عبد الملك بلغ الإنفاق على "شؤون البريد" 40 ألف درهم.
وكان عبد الملك بن مروان يوصي حجّابه بعدم منع صاحب البريد عنه أبداً "متى جاء من ليلٍ أو نهار، فربما أفسد على قومٍ سنة إذا حُبس البريد ساعة".
وفي أواخر العهد الأموي، أصبح نظام البريد "لا يُشد له سرج ولا تُلجم له دابة"، ونُظِر لهذا التدهور كعلامة هامة على قُرب نهاية الدولة، بعدما تمكّن العباسيون من حشد الأقاليم الخراسانية، في ظل غفلة بني أمية الذين لم يستشعروا مدى ضخامة الخطر إلا بعد فوات الأوان، وهو ما جاء بشكلٍ مباشر على ألسنة أحد القادة الأمويين بقوله "زوال ملكنا في استتار الأخبار عنّا".
ومن اللافت أن "جهاز البريد" كان من أول الدواوين التي اعتنى الأمويون بإنشائها خلال تدشين دولتهم الثانية في الأندلس، ومارس سريعاً نفس المهام التي عهدناها في دولة الخلافة الأموية الأولى.
نعرف أنه في عام 356هـ/967م تلقّى الخليفة المستنصر بالله رسالة "بريدية" تخطره بأن عماله زادوا في ظلمهم على الرعية، فأرسل لهم كتاباً يُحذّرهم فيه من عقوبتهم.
صاحب البريد المصري في العهد الأموي
نستقرئ من كتب التاريخ بعضَ الحوادث المتناثرة التي تناولت بعض أفاعيل أصحاب بريد مصر.
مثل يعقوب بن إبراهيم الباذغيسي، الذي أرسل إلى الخليفة المتوكل كتاباً يُخطره فيه بأن قبائل البجة (شعوب عاشت في صعيد مصر وامتد نفوذها إلى السودان)، نقضت عهدها مع المسلمين، ويحضّه على إرسال جيشٍ لتأديبها.
وفي بداية عهد ولاية أحمد بن طولون، نعرف واحدة من أخطر مؤامرات السياسة التي تورّط فيها صاحب بريد مصر، يُدعى شقير الخادم، تحالف شقير مع صاحب الخراج للإطاحة بابن طولون، فكتب الأول للخليفة يحذره من عزم ابن طولون الاستقلال بمصر عن الدولة العباسية.
بسبب رسالة صاحب البريد أوشك الخليفة على عزل ابن طولون وإنهاء تجربته الناجحة في حُكم مصر، لولا نجاح الأخير في استمالته بالمال والهدايا، ثم تخلّص ابن طولون من شقير، ليضمن استتباب الأمر له في مصر.
أيضاً في عهد ابن طولون، وبعدما ساءت العلاقات بينه وبين العباسيين، حدّثتنا كتب التاريخ أن رجال البريد كانوا يفدون إلى مصر من العراق يتنكّرون في زيِّ الفقراء ليستطلعوا أحوال أهلها سرّاً.
كما شهد عصر ابن طولون قصة أخرى، لم تؤثر كثيراً في أحداث التاريخ ولكنها تكشف شعور الناس تجاه أصحاب البريد، بعدما توسطت امرأة بدوية عند ابن طولون ليوظِّف ابنها، فأمر بتعيينه في ديوان البريد، فما كان منها إلا أن طلبت منه أن يوظّفه في "عمل مثمر، بدلاً من هذا العمل الذي يجلب العار"!
العهد العباسي: لا أحد مُصان حتى ولي العهد
على خطى الأُمويين، أفرد العباسيون ديواناً خاصّاً للبريد أُدير مركزيّاً من بغداد لضمان استتباب أمر الدولة التي تحيطها الأخطار من كافة النواحي.
زيدت طرق البريد حتى تجاوز 930 سِكة في أنحاء الدولة الإسلامية، وهو ما ينسجم مع الزيادة المطردة في بنود الإنفاق عليهم، التي بلغت 160 ألف دينار في عامٍ واحد خلال عهد الخليفة المتوكل.
خُصِّص لكل واحدٍ منهم شارة خاصة في حجم كف اليد، صُنعت من ألواح الفضة، وعُلّقت على الأكتاف لتُعرّف جميع رجال الدولة على هوية صاحبها شديدة الخصوصية ويمنحونه أكبر تعاون ممكن.
وكانت تقاريرهم ترد للخليفة العباسي على هيئة رزم بريدية مرتبة على أشكال أسطوانية مختومة بالشمع الأحمر.
كما عُيّن أفرادٌ في الوظائف المعاونة لرجل البريد، منهم "المرتبون" وهم السعاة المسؤولون عن وضع محتوى البريد في الحقائب، و"الموقعون" الذين يُحدّدون موعد انطلاق فرسان البريد للتنسيق بينهم، و"الفراونقيون"، الذين عُهد إليهم بإرشاد رجل البريد خلال الطريق.
يُروى عن الخليفة العباسي، أبي جعفر المنصور، أنه كان يتلقّى أنباء دقيقة عن حالة كافة الأمصار مرتين في اليوم؛ بعد صلاة المغرب يخبره رجال بريده كافة ما حدث طيلة النهار، وبعد صلاة الصبح يخطرونه بكل ما جرى في الليل. شملت هذه الأخبار كافة دقائق حياة الناس، بدايةً من أسعار الحبوب حتى إيرادات بيت المال.
وعندما بلغ المنصور من رجل بريده في حضرموت أن الوالي يُكثر الخروج إلى الصيد غضب عليه وعزله.
لم يتورّع صاحب البريد في العهد العباسي عن التجسّس على ولي العهد نفسه، مثلما فعل مع المهدي بن الخليفة المنصور، فحينما أعجب المهدي بقصيدة ألقاها عليه أحد الشعراء ومنحه هدية 20 ألف درهم، طارَ الخبر فوراً إلى الخليفة ولامَ ابنه على هذه الفِعلة.
وفي عهد هارون الرشيد، الذي أقام إصلاحات كثيرة في النظام البريدي جعلته "لا يشتهي شيئاً من معرفة أخبار الأمصار والبلدان، إلا وخطّ فيه كتاباً لحيث شاء من الأماكن فيأتيه الجواب في الحال".
أمر هارون بمدِّ رجال البريد عيونهم لمراقبة كافة القادة والولاة والوزراء، ولم يُستثنَ منهم حتى الفضل بن يحيى البرمكي، وزير هارون الأول وموضع ثقته لفترة طويلة من الزمن.
هذا النفوذ امتدّ في بعض الأحيان لتزكية أفرادٍ دون غيرهم لنيل الولاية، مثلما فعل هارون مع نصر بن حبيب المهلبي، الذي ولّاه على الشمال الإفريقي استجابةً لرغبة صاحب البريد في هذا الإقليم.
وفي بعض الأحيان كان صاحب البريد يحضر مجال القضاة، ليعرف كيفية أدائهم لواجباتهم ويكتب بذلك للخليفة، وبالمثل كان يراقب صاحب الشرطة، ويتأكد من التزام أفرادها بصلاحيات مناصبهم.
وهو ما خلق صدامات بين "رجال الدولة" وبعضهم في بعض الأحيان، مثلما وقع بين الطائي صاحب بريد مصر خلال عهد الرشيد، والقاضي محمد بن مسروق الكندي، حين رفض القاضي شفاعة صاحب البريد في أحد الخصوم، فاتّهمه الطائي بـ"الإبطاء في الجلوس بالناس" فأعفي القاضي من منصبه.
وبمرور الوقت، أضيفت المزيد من المهام إلى أصحاب البريد، فاعتمد الخليفة عليهم في تحرِّي أحوال السكك التي تقصدها الجيوش قبل تحركها إلى أهدافها العسكرية، مثلما فعل هارون الرشيد حين تحرّك لغزو الروم، إبان ولايته للعهد في خلافه والده المهدي.
خلال الحملة، أقام خط بريد مباشراً بينه وبين والده، يُبلغه بآخر المستجدات بأسرع وسيلة ممكنة، ويكفل له تلقي كافة الأخبار الممكنة عن أماكن تجمّعات العدو.
وأيضاً، كان المهدي أول من أقام خط بريد مباشراً بينه وبين مكة، لاصطياد كافة الأخبار الهامة ومعرفة الأحداث التي قد تؤثر على مقام الخلافة في ذلك الثغر الهام في جسد الدولة الإسلامية.
وفي عهد الخليفة المأمون، تردنا رواية عن صاحب البريد الذي اكتشف رجاله رقاعاً كُتب عليها سباب بحقِّ الخليفة، فاحتار الرجل من أمره قائلاً "كرهتُ رفعها على جهرها لما فيها، وكرهت أن أطوي ذِكرها وأنا صاحب خبر فينقلها غيري من جهةٍ أخرى فيلحقني ما أكره".
أيضاً في عهد المأمون، تلقّى رسالة مخابراتية بأن طاهر بن الحسين، والي خراسان، خطب يوم الجمعة ولم يدعُ للخليفة، فأمر بقتله!.
المصادر
- التجسّس وصاحب الخبر في العصر العبّاسي، نسرين محمود علي، ص 5
- المجتمع في مصر الإسلامية من الفتح العربي إلى العصر الفاطمي، هويدا عبد العظيم رمضان، ص 254
- نظام البريد في عهد الدولة الأموية بالأندلس، نصيرة طيطح، ص 299
- تاريخ النظم الإسلامية، فاروق عمر فوزي، ص 340
- هارون الرشيد، أحمد أمين، ص 22
- صناعة الكتابة وتطورها في العصور الإسلامية، أحمد السيد دراج، ص 26
- تطور المؤسسة العسكرية والأمنية في الدولة الأموية، رامي حسن، ص 151
- أساليب الدولة العباسية في تثبيت السلطة حتى نهاية عصر المتوكل، علاء حسين ترف، ص 112
- المختار من ولاة مصر وقضاتها، أبو عمر محمد بن يوسف، ص 113
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.