هذه المقالة هي الجزء الثاني من مراجعة رواية "امرأة من فلسطين" للكاتبة والناشطة الفلسطينية ريم النمر
بعد أن خرج أبو العباس مع قواته من بيروت إلى سوريا، عهد إليه حافظ الأسد بتدريب ابنه باسل قائلاً إنه يثق أن ابنه سيتربى تربية عسكرية سوية لن تتوفر له في معسكرات الجيش السوري.
قال الأسد: "في حالة ارتكاب باسل أي خطأ فلك مطلق الحرية في توجيهه ومعاقبته"، ورغم ذلك فعندما تأزمت الأحوال بين سوريا وعرفات، طلب رئيس المخابرات السورية منهم أن يختاروا إما عرفات وإما سوريا فاختاروا عرفات ورحلوا عن سوريا.
هاجمت طائرات مقاتلة إسرائيلية مقر منظمة التحرير في تونس، وتم تزويد الطائرات الإسرائيلية بالوقود خلال طيرانها بواسطة طائرات أمريكية، قتلت يومها ٥٠ فلسطينياً و٢١٥ تونسياً كلهم من المدنيين، علق ريغان الرئيس الأمريكي بأن ذلك رد شرعي على الإرهاب، وهمس أبو العباس فى أذن أبى عمار: لدي عملية نوعية ستزلزلهم، أجابه توكل على الله، ولم يرد معرفة التفاصيل.
كان أربعة من رجال الحركة قد درسوا كل ما له علاقة بالسفينة الإيطالية "أكيلي لاورو" وزودهم زميلان لهم بالأسلحة يوم توقفت السفينة في ميناء جنوة، وكانت الخطة تقتضي أن يصلوا إلى ميناء أسدود، ثم يدخلوا في معركة مع الإسرائيليين حتى يستشهدوا، فملأت الأخبار الدنيا، أن مسلحين فلسطينيين اختطفوا ٧٧٤ سائحاً على متن السفينة أكيلي لاورو، وأنهم يطالبون بتبادلهم مع خمسين مقاوماً من شعبنا أسرى لدى الاحتلال.
جن جنون أبي العباس، فلم يكن هذا هدفهم، خاصة أن تصرفاً كهذا يخلق مشاكل مع العالم، وقد وافق مبارك على أن تدخل السفينة ميناء بورسعيد ووافق على أن يركب أبو العباس قارباً بخارياً سريعاً ليتواصل مع رجاله.
وسجلت استخبارات العالم محادثة أبي العباس مع رجاله عبر مكبرات الصوت. ناداهم واحداً واحداً أن يتركوا السفينة ويخلوا السياح، ناداهم بأسمائهم الحركية والحقيقية.
وتبين أنهم لم يقتلوا أياً من السياح الأمريكان كما أُعلن، وإنما توفي عجوز أمريكي مشلول اسمه ليون كلينغوفر، ذكرت زوجته فيما بعد أن الخاطفين طلبوا من الركاب التجمع في مقدمة السفينة، لم تستطع الزوجة دفع المشلول بكرسيه المتحرك فوق السلالم، وأخذ الزوج يحدث ضجة، فضربه أحد المسلحين بعقب البندقية فمات.
ما الذي حدث وحرف الأمور عن مسارها؟ الرجال الأربعة كانوا من اليتامى الذين قتُل آباؤهم في مجازر صبرا وشاتيلا، اكتشفهم طاقم السفينة فاهتزوا وأعلنوا عن الاختطاف.
اتصل مبارك بنفسه، كان لطيفاً لدرجة أنست أبو العباس حذره منه… أنا أعطيك وعد شرف… لن يعترض أحد طريقك… لا تقلق يا أبو العباس دي مصر.
غادرت طائرة الرئاسة مصر نحو تونس، عليها أبو العباس ورجاله، ما أن استقرت الطائرة في الفضاء حتى أخذت طائرات مجهولة الهوية تلاحق الطائرة. دخل أبو العباس قمرة القيادة شاهراً مسدسه، انطلقت الطائرات من قاعدة للناتو في جزيرة صقلية بأمر مباشر من ريغان، الرئيس الأمريكي.
كان أبو العباس يسمع الأمريكيين بوضوح، يتوجهون بأوامرهم لمركز المراقبة في صقلية: عليكم أن تسمحوا لهذه الطائرة بالهبوط: نحن قوات دلتا، نأمركم.
استجاب الإيطاليون وعلى الأرض أحاط رجال الأمن بالطائرة، ومن خلفهم حلقة كاملة من الجنود الأمريكيين مدججين بالسلاح وفي مكان قريب كانت هناك طائرة أمريكية وكان واضحاً أنها جاءت لنقل المختٓطفين إلى أمريكا، وحينها استعر الخلاف بين الإيطاليين والأمريكيين، فإيطاليا لا ترغب في السماح للأمريكيين باعتقالهم،وتفترض أن تتم محاكمة المختطفين في إيطاليا لأن أكيلي لاورو سفينة إيطالية، ولا ترغب في الانحناء لأمريكا.
أرسل كراكسي رئيس وزراء إيطاليا إلى الطائرة مبعوثاً يحمل رسالة إلى أبو العباس: رئيس الوزراء يرغب في التحدث إليك، عليك النزول إلى صالة المطار كي أتحدث معك، خشي أن يقع فى فخ فرفض، بعد مفاوضات دامت يوماً كاملاً أصدر ريغان أوامره للقوات الأمريكية بالانسحاب، وتم الاتفاق على أن تحتجز السلطات الإيطالية الخاطفين، وأن ينتقل هو ومن معه وطاقم الطائرة المصرية بالطائرة إلى مطار روما العسكري تحت مراقبة المقاتلات الجوية الأمريكية وبطلب من السفير المصري نزل المرافقون المصريون، وتوجه أبو العباس على متن طائرة مدنية إلى يوغوسلافيا…. في مطار بلغراد وجد تجمعاً كبيراً في الانتظار وفهم أن هؤلاء جميعاً قد جاؤوا للتحدث معه فقد أصبح مشهوراً.
أما عائلة العجوز الأمريكي فقد كسبت دعوى ضد منظمة التحرير أقامتها في مانهاتن، وأجبرت المنظمة على دفع مليار ونصف دولار تم دفعها على سنوات، أما رجال أبو العباس فقد حُكموا بالسجن في إيطاليا عشر سنوات.
وانتقلت إقامته ورجاله المئتين إلى العراق بعد أن رفضت تونس عودته، وجمد عرفات عضويته في المجلس الوطني ثلاث سنوات، وبعد العودة عن التجميد حاول أبو العباس عمل عملية جريئة بمساعدة سفينة ليبية أنزلت ستة عشر قارباً محملة برجال الجبهة مقصدهم تل أبيب، انكشفت العملية فتم تجميد أبو العباس نهائياً.
استقرت العائلة في العراق وبدأت أحوال الأسرة تهدأ رغم الشعور الكئيب بالتقاعد المبكر عن العمل العسكري، لكن أحوال العالم كانت تمر بهم وبغيرهم، العراق احتل الكويت فاستدار العالم عن دعمه يوم حارب إيران ليصبح في مواجهته…. أشاع البعض أن عناصر من جبهة التحرير العربية عملت مع عسكريي العراق في الكويت وهذا غير صحيح، بل إن أبو العباس تجرأ وتحدث مع اثنين من كبار رجالات صدام ناقداً توجه القوات العراقية نحو الكويت.
زار أبو العباس إحدى دول أوروبا الشرقية وأجرت الـ"سي إن إن" معه مقابلة، فيها طُلب منه أن يعلق على إعلان ريغان عن جائزة مالية كبرى لمن يأتي برأس أبو العباس فرد بأنه يرصد مليون دولار لمن يأتيه برأس ريغان، على إثرها ظهر إسحق شامير على التلفزة الإسرائيلية مهدداً: "سوف نأتيك أبو العباس أينما كان الملجأ الذي تختبئ فيه في بغداد".
طرب أبو العباس لهذا التهديد الإسرائيلي فهذا عنى له (ما قمنا به كان ناجعاً وموجعاً)، المخابرات العراقية رأت نقل العائلة مؤقتاً إلى دهوك والسليمانية في كردستان العراق حفاظاً على حياته وزاد ذلك من شعور العائلة بالتشتت، وعندما اقتربت نذر الحرب رتب أبو العباس لزوجته أن تنتقل إلى عمان مع الأولاد وعادوا مع انتهاء الحرب، كان الوضع لا يحتمل، فالضروريات مثل حليب الأطفال كانت مفقودة.
بعد الحرب بدأ شعور الأسرة يتزايد بأن العراقيين قد تعبوا من دور المضيف، ومنظمة التحرير لم يعد لديها موارد مالية بانقطاع الدعم الخليجي، وأصبح أبو العباس ورجاله المئتان بلا مورد!
العراق لم يعد لديه مال يعطيه، لكنه أعطاهم أراضي قابلة للزراعة من ملكيات الحكومة لاستصلاحها، وهكذا تحول أبو العباس إلى مزارع وتحولت المزرعة إلى هوس دائم لهم تمدهم بالخضراوات التي يوزعها أبو العباس على رجاله.
لم يكف أبو العباس عن ممارسة بعض التحديات غير عابئ إلا بما يمليه عليه ضميره، جاءت إلى بيته امرأة فلسطينية في منتصف العمر تطلب مساعدته، امرأة محتشمة تلبس حجاباً أنيقاً ومعها أربع بنات، لفتت نظر ريم ابنتها الكبري بجمالها وبعينيها الزرقاوين اللتين تشبهان عيني كليوباترا، كان زوج المرأة مصرياً محكوماً بالسجن لاتهامه بتهريب العملة، وخلال سعي المرأة لمساعدة زوجها أشير عليها بأن تلجأ إلى عُدي صدام حسين، وهناك ارتكبت المرأة الخطأ الأكبر حيث اصطحبت بناتها معها لتدلل على أنها معيلة.
لكن في اليوم التالي أرسل عدي دعوة لابنتها الكبرى لحضور إحدى حفلاته وهي في الغالب حفلات ذات سمعة سيئة.. بالطبع رفضت الأم، لكن تكررت الدعوة وتكرر الرفض وفي اليوم الثالث أصبحت الدعوة مشفوعة بالتهديد: "إما أن تحضر ابنتك أو سترون ما يحدث لكم"، ذعرت المرأة وغادرت منزلها في منتصف الليل باحثة عن مأوى، وفي النهاية أشار عليها أحد الأصدقاء باللجوء إلى أبو العباس، فقام أبو العباس بما يجب ودبر أن تغادر المرأة وبناتها العراق خلال ثمان وأربعين ساعة غير آبه بالضرر الذي قد يحدث له بتحدي عدي صدام حسين، وقال لي إن عدي يعرف أنني سأحمل القضية إلى والده وصدام لن يرضى بذلك أبداً!
رفضت إسرائيل دخول أبو العباس وأبو داود إلى فلسطين بعد أوسلو ثم سمحت به فزار فلسطين، بيت عائلة أبو العباس كانت تسكنه عائلة يهودية قدمت من العراق.
أعلنت أمريكا الحرب على العراق بعد أحداث سبتمبر/أيلول، لم يكفها موت مليون عراقي بسبب الحصار، بالطبع كان أبو العباس يتمتع بحصانة تمنع محاسبته على أي عمل عسكري قام به قبل أوسلو.
سيطرت القوات الأمريكية على بغداد في أبريل/نيسان ٢٠٠٣، نُصح أبو العباس بالمغادرة فتوجه متخفياً باللباس العربي التقليدي إلى الحدود الإيرانية، قال الضابط الإيراني المسؤول، لن تعبروا هذه الحدود، وقف هنا السفير السوداني ثلاثة أيام ولم يسمح له بالمرور إلا بأمر من وزارة الخارجية في طهران.. اذهبوا إلى سوريا…. سوريا سمحت للكثير من رجال صدام وعائلته بدخولها.
لكن على الحدود السورية تم إيقاف أبو العباس، ولم تسمح له كبرياؤه بالاتصال مع غازي كنعان وزير الداخلية وصديقه منذ أيام لبنان، تواصل مع ناصر قنديل النائب اللبناني المقرب من بشار الأسد، ولكنه لم يتمكن من مساعدته.
ضابط المخابرات العسكرية السورية خلدون قال لهم إن المسألة مسألة وقت، لكن أبو العباس لم يكن مطمئناً فمجرد تدخل المخابرات العسكرية أمر لا يدعو للاطمئنان.
لا أشك في أن السوريين أخذوا رأي أمريكا بخصوص أبو العباس ولا أستغرب أن يكون هؤلاء قد تشاوروا مع الإسرائيليين.
مضت ساعات قبل أن تصل حافلة صغيرة لنقلهم، قيل لهم إلى دمشق.
في الحافلة كان يوجد أربعة جنود شاكي السلاح وبدت العملية أقرب للاعتقال، انعطفت الحافلة بعد ذلك إلى طريق معزول. كان واضحاً أنه يعود إلى الحدود وفي مكان معزول عن الدنيا توقفت الحافلة، نزل خلدون وشهر مسدسه وأمر أبو العباس ومن معه بالنزول تحت تهديد السلاح.
قال له أيها الرفيق، سوريا لم تعد قادرة على حمايتك أو السماح لك بالبقاء على أراضيها، عليك أن تعود إلى العراق، فقال أبو العباس إذا كنت لا تريد السماح لي بالدخول، فعلى الأقل أعدني إلى النقطة الحدودية من حيث أتيت، لا تتركني وسط المجهول.
فأخبره أن تلك هي الحدود العراقية وإذا عدت إلى هنا ثانية أقسم أننا سنقتلك.
بقي الرجل ورفاقه يومين، عثر عليهم أحد البدو واستضافهم شيخ من شمر، لم يسألهم من هم، ولكنه فهم من هاتف الثريا أنهم من رجال صدام، رتب لهم العودة إلى بغداد مع مهربين، واستطاعت القوات الأمريكية أن تستدل عليه بمتابعة مكالمة أجراها من هاتف الثريا مع زوجته في عمان. أحاطوا المنزل الذي هو فيه بالمدافع والرجال وطائراتهم تطير فوق المكان وفي فيلم هوليوودي تم إلقاء القبض عليه. ألبسوه قناعاً أسود فيه فتحتان للعينين.
وكانت تلك نهاية المتاهة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.