الشعوب المغاربية ومرحلة الاستقلال
ما أن حصلت الدول المغاربية، وتحديداً المغرب والجزائر، على استقلالها من ربقة الاستعمار الفرنسي، حتى حلت بها لعنات "مقالب الدرس الكولونيالي" بداخل جغرافيتها السياسية، سواء فيما بين حركاتها التحررية الداخلية أو فيما بين أنظمتها ونخبها السياسية في علاقاتها البينية، في اتجاه خلط كل أوراقها المضحى من أجلها بالأرواح وكل الإمكانيات المادية والمعنوية، بعد أن أدت الشعوب المغاربية فواتيرها الغالية لأجل الاستقلال وبناء دولها وأوطانها من جديد بإرادات ذاتية، منطلقة من آمالها وطموحاتها الجماهيرية والنخبوية المسطرة على ضوء "مطالبها الاستقلالية"، أملاً في بناء صروحها على أسس مشاريع تاريخية وحضارية بإنهاء عهود الحجر والتبعية والتخلف.
وإن كان هذا على مستوى ما من الوعي الخاص المحمول لدى بعض من نخبها وجماهيرها معاً، علماً بأن كلامنا عن "المطالب الاستقلالية" فيها نظر من قبل المفكر المغربي عبد الله العروي، بخصوص التجربة المغربية في علاقاتها بطموحاتها الاستقلالية وإنهاء عقد الحماية الاستعمارية، وهو ما ينسحب على كل الدول المغاربية، بشيء من الاختلاف البسيط، مع الملامح المشتركة الكبرى فيما بين كل حركات التحرر الوطنية والمقاومة فيها.
مقاومة الأمير عبد القادر
لقد تماهت كل المعطيات فيما بينها على الرقعة الجغرافية المغاربية، بدءاً بالتصادم الأولي بالحملة الاستعمارية الفرنسية على الجزائر، إلى بسط فرنسا قواها عليها، مروراً بعمليات الشد والجذب في علاقتها بالمغرب المستقل آنذاك، مستغلةً تعاطف المغرب ودعمه للمقاومة الجزائرية التي كان يقودها الأمير عبد القادر.
وتلقى المغرب تهديدين من قبل السلطات الاستعمارية الفرنسية سنتي 1832 و1836، ليمنح فرنسا فرصة التخطيط الجدي في محاولاتها لاستفزازه أكثر وبكل الوسائل المتاحة على خلفية اصطفافه إلى جانب المقاومة الجزائرية، فوقعت معركة إيسلي سنة 1844 التي انهزم فيها المغرب أمام القوة العسكرية الفرنسية، فأجبر بعد الهزيمة على رسم الحدود الشرقية بما اشترطته السلطات الفرنسية بدعاوى واهية، في لالة مغنية يوم 18 مارس 1845.
إضافة إلى هذا، ففرنسا الاستعمارية لم تتوقف عند هذا الحد بحسب مخططاتها الاستعمارية، بل ستعمل جاهدة على كل الجبهات المكونة للمجال الجغرافي للمنطقة المغاربية، لبسط نفوذها على كل جغرافيتها، وهو ما حصل لها لاحقاً إلى أن تم إجلاؤها بحسب اتفاقيات إنهاء عهد الحجر والحماية والاستعمار بضغط من حركات المقاومة المغاربية.
إلا أن السؤال المطروح منذ تلك اللحظة إلى يومنا هذا، هل فعلاً تم الحسم بشكل نهائي مع الاستعمار الفرنسي وكل تركاته، تاريخياً، سياسياً، أيديولوجياً، ثقافياً، واقتصادياً، في علاقاته بتطلعات وحدات حركات التحرر الوطنية والدول المغاربية؟ أم أن ما يعاش في هاته اللحظة بالذات هو من تبعاته المخزية وتداعياته المجحفة في حق الشعوب المغاربية وخاصة فيما يتعلق بمجالي الجزائر والمغرب على جميع المستويات؟
إرث الاستعمار.. أزمة الحدود بين المغرب والجزائر وظهور البوليساريو
إن كلاً من الحركة الوطنية في المغرب والجزائر كانت لهما أهداف تاريخية من وراء إنجاز مطلب الاستقلال وإنهاء عهد الاستعمار، بكل دلالاته، إلا أن هؤلاء الثوار في البلدين، على حد سواء، لم يستوعبوا الدرس الاستعماري الفرنسي جيداً.
لم يفهموا بشكل استراتيجي شروط الاستقلال المنبثقة عن مخططات السلطات الفرنسية الاستعمارية، بما كان يحتفظ به في مسوّداته ودراساته المتعددة الجوانب منذ احتلال الجزائر إلى أن سطرت بنود الانعتاق من ربقة الاستعمار بشكل محبوك بإخراج مسلسله التراجيدي الذي سيبقي المنطقة على إشكالياتها المعاصرة، خاصة في مجال الحدود بين الدولتين ودول الجوار لهما معاً، لتحتد الصراعات الخلافية في نهاية المطاف، فتتوج بالصراع العسكري الفعلي على أرض الواقع، فيما يعرف بـ"حرب الرمال" سنة 1963، مباشرة بعد سنة من استقلال الجزائر سنة 1962، وإدخال كل من النظامين في المغرب والجزائر في صراعات دائمة، خصوصاً بعدما ظهرت على الساحة توجهات الطرح الانفصالي من قبل البوليساريو على الجنوب المغربي، في ضوء مفهوم "حق تقرير المصير" واحتضان جبهة البوليساريو سياسياً ودبلوماسياً من قبل الجزائر.
ولم تكن البوليساريو تمتلك أدنى شروط من الشرعية السياسية والتاريخية من طرف المنادين والمتشبثين بالطرح الانفصالي، وهو ما زاد في الخلاف بين المغرب والجزائر، بما قد يسمح بالقول بأن أصل الخلاف يعود إلى طبيعتي النظامين السياسيين معاً في زمن التقاطبات الأيديولوجية العالمية علاوةً على الخلافات السياسية والحدودية.
إلا أنه كانت هناك بنية أعمق في تأجيج هذه الخلافات، بنية موغلة في طبقات العقل السياسي الذي يقف وراء إنتاج السلوكيات والمواقف السياسية في كل أبعادها، عقل لم يعقل شروط وجوده بشكل يليق بمتطلبات التعاون والتضامن بين النظامين ومؤسساتهما، لتحقيق أحلام الشعبين وطموحاتهما في الرفاهية والتقدم والتطور المأمول، بنية عقل لم تحدد إحداثياتها بمنطق مناقض لما حيك ضدها من المقالب الجيوستراتيجية والجيوبوليتكية للعقل الفرنسي الاستعماري وما بعده.
ليتأكد بالملموس أن فرنسا لا زالت حاضرة في مجال ساحة الدولتين السياسية بما خلفته من تركة مختلف عليها في العديد من فصولها، فتم ترسيمها بإحداثيات الدعاوى غير العقلانية في أساسها، من قبيل أن السلطان مولاي عبد الرحمان بعد هزيمته في معركة إيسلي 1844، اعترف بالاستعمار الفرنسي على أرض الجزائر، وأن المغرب طعن ظهر الإخوة الجزائريين بشنه الحرب على الشعب الجزائري مباشرة بعد حصوله على الاستقلال بما عرف بحرب الرمال في أكتوبر سنة 1963، وغيرها من الدعاوى. مع أنه من المعلوم أن المغرب قدم الدعم الكبير للحركة التحررية الجزائرية.
واستمرت التوترات المزمنة في العلاقات المغربية الجزائرية، ولا زالت لم تبرح مكانها في نقطة الصفر، ولا يبدو أي انفراج يلوح في الأفق ولو في بعده المتوسط، لإحياء وبعث العلاقات الجادة والهادفة فيما بينهما، لإنهاء الصراع والحرب الباردة على الساحة السياسية والإعلامية والدبلوماسية مع المغرب، وانعدام محاولات ترشيد العقل السياسي نحو خطوات مهمة للبناء التاريخي والحضاري على جميع المستويات سواء بين الجزائر والمغرب أو بداخل الفضاء المغاربي ككل، ما دامت هناك إمكانيات ومقومات البناء موجودة ومتوفرة بشكل بشري ومادي ومعنوي على بساط الجغرافية المغاربية.
فيمكننا القول بكون شرعية الخلافات التاريخية يجب أن تصبح في خبر كان، لتحنط برفوف التاريخ، وأن بعث الروح البناءة تمليها الظروف المعاصرة بعقل جديد واعٍ بالماضي والحاضر، مستشرفاً لآفاق مستقبل الشعوب المغاربية عموماً، مبدعاً للتخريجات السياسية بذات الحلول المرضية الضامنة لرفاهية واستقرار وسعادة وحياة كريمة لكل فرد مغاربي، باعثة لنفس مخالف لما كان في السابق الذي تأكسد بفعل مقالب القوى الاستعمارية الإمبريالية، والأكيد أنها لا زالت قائمة بين ظهراني الأنظمة السياسية والثقافة السياسية للرسميين المغاربيين. حيث لم يعد من الممكن الإبقاء على شروط الخلافات المفتعلة.
وهنا يحضرنا التأمل بصدد علاقات الصراع التاريخية التي شهدتها ألمانيا وفرنسا فيما بينهما، وكيف تجاوزت الدولتان كل خلافاتهما ونزاعاتهما وصراعاتهما الدموية الحادة، ذهب ضحيتها الملايين من مواطنيهما.
ألمْ يتأمل سياسيو ومسؤولو نظامي الدولتين المغرب والجزائر كل التجارب التاريخية واستخلاص العبر منها لوضع حد لهاته الصراعات المجانية؟ أم إن العقل السياسي المدبر لشؤون الشعبين ليس له مصلحة في إنهاء الخلافات؟ بل يريد الإبقاء على الوضع كما هو، وترك الشعبين يؤديان الفاتورات الباهظة في غياب إرادة الجماهير الشعبية لكلا الشعبين في عمليات مأسسة المؤسسات الدولتية والمجتمعية والوطنية نحو إطار فضاء مغاربي عام يحضن كل المغاربيين على اعتبار ما يربطهم من عرى وثيقة تمتد بهم إلى أعماق التاريخ الماضي وتحمله نحو فسحات المستقبل الأرحب؟
ضرورة تجاوز الخلافات
لقد بات من الضروري إعادة النظر في محددات العقل السياسي لنظامي المغرب والجزائر وفي طبيعة بنياته، أملاً في الخروج من توترات مزمنة مؤسسة على أوهام هذيان عقل سياسي مصاب بحمى هستيرية، أوهام دوافعها مصطنعة بفعل إرادات خارجية لم يتم الوعي بها برؤية عقلانية، مع استحضار البعد الذاتي النرجسي للفاعل السياسي المغربي والجزائري معا.
فإن كان المغرب قد تجاوز بعضاً من معضلاته السياسية الداخلية، ويحاول من حين لآخر أن يعقد العزم ولو بخطوات بطيئة، لحسم ما تبقى من مخلفات سلبية في ظل حراكات سياسية داخلية متوهجة، من جهة، وما يحمله على بحث السبل لانتشال نظامه السياسي من براثن الماضي، في علاقاته بالجارة الشقيقة شرقاً، من جهة أخرى، فإن النظام الجزائري لا بد أن يتحرك سواء على المستوى الداخلي أو في علاقاته بالصراع الدائر مع المغرب، ضارباً عرض الحائط كل الخلافات والنزاعات القاتلة لكل طموحات وآمال الشعبين وكل شعوب الدول المغاربية برمتها.
وها نحن كمغاربيين نعيش تجليات أزمة العقل السياسي بأوهامه المرضية، على خلفية الصراعات والتوترات المرَضية المزمنة منذ عقود من الزمن، موصدة كل الأبواب نحو انفراجات فاتحة أبواب البناء التاريخي والحضاري على مصراعيها أمام شعبي المغرب والجزائر للعيش في سلام وأمن وطمأنينة ومصير مشترك، لأجل التقدم والتطور المأمولين والمنتظرين بروح حضارية عالية وقيمة في نفس الآن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.