كل المجتمعات والأمم والحضارات لديها تصورات تجاه نصفها الآخر في علاقة جدلية قائمة بقيام الوجود الإنساني، نصف من المجموع سواء أكان امرأة أو رجلاً، كل منهما يتمثل الآخر وفق نسق معين من القيم الاجتماعية، والثقافية، والإنسانية، والدينية، والأخلاقية، بداخل البنيات الاجتماعية القائمة على اختلافها.
فعبر مراحل التطور الإنساني والتاريخي والحضاري شكّلت المرأة قضية شائكة في حيثياتها المتعددة وتجلياتها المختلفة، بحسب البنى السائدة في مجتمع ما وحضارة ما، عرفت في ارتباطها بما يعتمل بداخل المجتمعات والثقافات العديد من التصورات والتمثلات تجاهها، لذا كان من اللازم أن تعرف كائنية المرأة بداخل مؤسسات المجتمع مراتب مختلفة، انطلاقاً مما هو متصور عنها بداخل المنظومات الثقافية والقيمية والمعرفية والأخلاقية، لتحديد هذه الكائنية بحسب ما فكّر فيه كل فرد بداخل كل تجمع بشري ما.
ومجمل القول في كل هذا هو أن هناك إجماعاً عن فكرة، مفادها أن المرأة كذات إنسانية عانت عبر كل المراحل التاريخية والحضارية من كل أشكال التعسف والاستبداد والظلم والاستغلال، إذ إنها كانت تشكل الوعاء الخاص للعقلية الذكورية ولسلطة الرجل في تفريغ كل مقومات سلطته وكل نزعاته الشعورية واللاشعورية، والتي ما زالت قائمة في جوانب كثيرة من حياة المجتمعات، بالرغم من التقدم والتطور العلمي والثقافي والحضاري الحاصل في وقتنا المعاصر، بأشكال متفاوتة وبدرجات معينة، لم تسلم منها حتى البلدان المتقدمة رغم التبجّح بما حققته من حرية وحقوق إنسانية وعدالة وديمقراطية، إذ لم تخرج عن دوائر الاستغلال بشكل من الأشكال.
إن قضية المرأة في المجتمع لم يحصل فيها نقاش ولا جدال إلا في حدود بداية القرن العشرين، بشكل لم يكن معهوداً في القرون السابقة.
وقد نجد الكثير من المنظومات الدينية والفلسفية والثقافية تستبطن الحديث عن المرأة، متضمنة في متون الفلاسفة أو رجال الدين أو أشعار الشعراء أو منحوتات النحاة، ولكنها لم ترقَ إلى قضية قائمة بذاتها إلا حينما تطور الفكر شيئاً ما وبدأ يتزحزح عن أصوله التقليدية، وحصلت بعض من الحراكات في تاريخ البشرية المعاصرة.
وحينما عرفت المجتمعات المعاصرة بعض الظواهر، وما أنتجته من تداعيات على بنيات المجتمعات الإنسانية، خلق هذا نوعاً من التجاذب والتفاعل فيما بينها، وظهرت ما تُسمى بالحركات النسوية، فامتدت إلى كل المجتمعات والثقافات والحضارات المعاصرة، محدثة أنماطاً تصورية أخرى تخالف ما كان سائداً في السابق من قوالب ذهنية تجاه المرأة، نحو إنتاج قيم أخرى ذات دلالات تحررية من وضعيات الاستغلال والظلم والعنف.
وانكشفت عورة الثقافات والنظم القيمية الحاملة للسلبية في تصورها لكائنية المرأة، سواء المستمدة من التأويلات والتفسيرات للنصوص الدينية أو التي تستمد جذورها من الروايات الثقافية الضاربة في عمق التاريخ البشري.
وهذا كله وسط غياب وعي حقيقي بالكائنية الإنسانية للمرأة، وتزييف الحقائق في علاقتها بالرجل، باعتبارها وحدة من وحدات وسائل الإنتاج في البنيات الاجتماعية والاقتصادية، تفتقد السلطة على ذاتها، بالرغم من أنها أصل وجودة، ناهينا عن ارتباطاته العضوية بها كأم وأخت وزوجة وبنت.
هنا تتدخل مقومات التنشئة الاجتماعية في قولبة الوضعية الخاصة بالمرأة بداخل التجمعات البشرية في شكلها القبائلي أو العشائري أو المجتمعي عموماً، لتتشكل بنيات ثقافية وقيمية تعمل على تحديد الأدوار والوظائف الخاصة بالمرأة وفضاءات تحركاتها بشكلها المادي والمعنوي.
إن ممارسات العنف تجاه المرأة هي بحد ذاتها ممارسات تنم عن وجود علاقات متوترة بين الرجل والمرأة، وبين المرأة والمؤسسة على اختلافها، وبين حَدّي سلطتين لذاتين تريدان انتزاع شيء ما من الآخر، في دلالاته المادية والرمزية، وفي حدود الوعي الزائف في علاقاتهما فيما بينهما، وتنكّرا للوعي بحقيقة الوجود الإنساني، ومدى أهدافه ومقاصده المثلى، المبني على الوحدة والتكامل والتعاضد، وتقسيم الأدوار والوظائف في مسارات ممكنات الإعمار والاستمرارية الوجودية، لأنه لا وجود بدون الآخر منهما.
فسلوكيات العنف المادي والرمزي على المرأة لا يمكنها قطعاً أن تخلق السواء في علاقاتنا بكل البنيات، فالعنف قد يُقابل بعنف آخر، إن لم يكن بشكله المادي قد يكون بأوجهه الرمزية، فتتضخم الذوات والمؤسسات الحاضنة في ارتباطها بما تؤمن به من أفكار، وتخلق أزمة في غالبيتها، أزمة على جميع المستويات.
بدءاً بمؤسسة الأسرة إلى مؤسسات الدولة والمجتمع، فتنتج عن هذا أعطاب وإعاقات تشلّ حركية المجتمع في توجهاته الصحيحة والخالية من الأمراض الاجتماعية.
إن النظرة التبخيسية للمرأة بداخل الأوساط المجتمعية تجعل من المجتمع يهدر الكرامة الإنسانية فيه، ولا يحقق النجاحات المطلوبة، بل يراكم ويزيد في تعميق أزمته البنيوية، فلا وجود لمجتمع سوي وطبيعي مع قواعد غير منصفة لجزء كياني عضوي، ومن هذه القواعد الاجتماعية والقيمية، على سبيل التعليل لا الحصر:
– أن تُحرم المرأة من التنشئة التربوية والثقافية والعلمية.
– عدم تقدير مسؤولياتها والتنقيص من أدوارها الاجتماعية على اختلاف مواقعها.
– عدم الاعتراف لها بما تنجزه من وظائف متعددة.
أود أخيراً أن أقول إن الكرامة الإنسانية لا تكتمل منجزاتها بداخل مجتمع، أياً كان، إلا باحترام الإنسان لذاته في كل أبعاده الوجودية، واحترام الأفراد لأنفسهم، وكذا علاقاتهم البينية، كيفما كانت طبيعة أطرافها، دينياً، وإثنياً، ومذهبياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً، وأيديولوجيا.
علاوة على احترام الجماعات لبعضها البعض، مهما كانت الظروف، إضافة إلى تقدير كل مقومات الوجود الإنساني، ما دامت الغاية هي الإنسان في حد ذاته، وبنبذنا لكل أشكال العنف المادي والرمزي، سواء فيما بين الرجال أنفسهم أو فيما بين الرجال والنساء، ومن ثم مساهمة المرأة إلى جانب الرجل في بناء مؤسسات مجتمعها من دون معايير تمييزية، يؤدي ذلك إلى الكثير من الفرص الثمينة للبناء الحضاري الهادف والوازن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.